*الشمال النيلي: مآلات الصراع* على عسكوري ٨ يوليو ٢٠٢٥*

أكتب هذا المقال من واقع مسؤوليتي الوطنية كمواطن اولا. الهدف الأساسي للمقال هو تنبيه ليس فقط السلطة الانتقالية القائمة، بل لكل الوطنيين خاصة القوى السياسية والمهتمين بالاستقرار السياسي في البلاد حتى لا تذهب ريحها، لانى اري شجرا يسير..! يجب التذكير ان هذه ليست المرة الاولى التى اكتب فيها عن قضايا الشمال (النيلي) موطن (الجلابة) المتهم علنا بانه (كاتل الجدادة وخامى بيضها) بينما يرسف انسانه في فقر مدقع يصدم كل من يزوره رغم ان ذهبه فاضت به خزائن الاقليم وما بعد الاقليم وما تزال قوى داخلية وخارجية تتكالب علية لتنهب المزيد!

لا اود ان اضيع وقت القارىء في تفاصيل ما يدور من نهب للذهب من جماعات من خارج الولايتين، وقد قدر لى بعض (الدهابة) من ابناء الولايتين ان المعدنيين من خارج الولايتين يساوى ثلاثة اضعاف ابناء الولايتين الذين يعملون في القطاع! و رغم هذه الاريحية في مناطقهم، ليس لابناء الولايتين الحق في التعدين في ولايات اخري كثيرة وهو امر يضرب حق المواطنة المتساوية في مقتل..! من نافلة القول ان المواطنة المتساوية تقتضي بالضرورة حق العمل في اى بقعة من الوطن على قدر المساواة، غير ان الواقع في السودان يخالف ابسط حقوق المواطنة المتساوية فابناء الولايتين من واقع الصراع ليس لهم الحق في العمل في ولايات كثيرة، وان خاطروا بالذهاب لها حتى عابرين يتم اصطيادهم لانهم (جلابة)! تلك هى حقيقة هذا الواقع الصادم!
امضيت فترة عيد الاضحى في ولاية نهر النيل وبقيت لفترة امتدت لاكثر من شهر قابلت خلالها المئات من القيادات و المهتمين من ابناء الولايتين. شملت اللقاءات جميع انواع الطيف و المكونات المجتمعية، يسار، يمين، وسط لامنتمين الخ.. واود ان انتهز هذه الفرصة لاشكر كل من حرصوا على لقائي واطلعونى على معلومات وحقائق عن حقيقة ما يدور في الولايتين وعن تفاصيل كثيرة كنت اجهلها.
قبل ذلك كنت في القاهرة في ابريل الماضي وقابلت الكثيرين من ابناء الولايتين الذين نزحوا للقاهرة. كما انني على تواصل مع كثيرين من ابناء الولايتين في دول مختلفة، يكتبون لي باستمرار.
ما لفت انتباهي من واقع النقاشات هو تطابق الافكار والرؤى بصورة كبيرة اذ ان الغالبية الساحقة من هولاء في الداخل والخارج على قناعة تامة بأن ما يجري لولاياتهم هو عبارة عن (نهب) منظم باسم الدولة، فكل الفوائض التى تخرج من الذهب تذهب لخارج الولايتين، ورغم ان انتاج الذهب مضي عليه اكثر من عقدين الا ان واقع الخدمات العامة في الولايتين اصبح مترديا اكثر مما كان عليه قبل انتاج الذهب!
حسب تقديرات اولية من مصادر مختلفة فإن الولايتين يساهمان بقرابة ال ٧٠% من انتاج الذهب الكلي، واذا اخذنا كميات الذهب المهرب بطرق شتى في الاعتبار، ففي الحد الادنى تنتج البلاد حوالى ١٠٠ طن سنويا. بمعنى اخر فإن الولايتين ينتجان حوالى ٧٠ طن سنويا يذهب بعضها للدولة ويهرب الكثير . قيمة ال ٧٠ طن حسب الاسعار العالمية للذهب في يوليو الحالى بواقع متوسط سعر الطن ٧٥ مليون دولار تصبح (خمسة مليار و مئتنان وخمسين مليون دولار)! لا احد يعلم اين تذهب هذه العوائد الضخمة وفيم تصرف وواقع الحياة والفقر في الولايتين الذى يضرب الجميع والخدمات العامة المتهالكة يغنى عن السؤال!
من يذهب الى مستشفي عطبرة او الدامر او شندى او كريمة او مروي او دنقلا او غيرها ومن يذهب لاى مدرسة او ينظر للطرقات او خدمات الكهرباء يصدم تماما وسيقول لنفسه ان هذه المناطق هى افقر مناطق الكرة الارضية وسيفكر دون شك في جمع التبرعات من الخيرين لاهلها. ذلك هو واقع الحال في الولايتين! موارد تنهب وفقر مدقع يضرب السكان.
والحال كذلك ليس مستغربا ان تتحول همهمات الناس الى حديث علنى يشير الى سحب سوداء تتجمع في الافق، وان وصول العاصفة اصبح مسألة وقت ليس الا.
يضاف لكل النهب الذي يجري، ان الولايتين تحملتا عبئا ضخما من ملايين النازحين من الحرب. ورغم الضغط الهائل الذى وقع على الخدمات العامة المحدودة لم تقدم وزارة المالية اى دعم للخدمات فيهما لمقابلة الطلب الكبير على الخدمات من تعليم وصحة والطلب المتصاعد لحفظ الامن العام، بل على العكس تماما ظلت وزارة المالية تأخذ المزيد من موارد الولايتين من الزراعة وغيرها وتفرض اتوات اضافية على المواطنيين وعلى الاعمال والشركات وهى اتوات لا يمكن ان يتصورها انسان.. فالواقع يقول ان سكان الولايتين وحدهم من يتحمل عبء المنصرفات العامة للدولة وتغذية الخزينة العامة! وهذا عبء تنؤ به راسخات الجبال.

من واقع لقاءاتى ونقاشاتى التى اشرت اليها اعلاه، ومن واقع الحراك الداخلي في مجتمعات الولايتين استطيع تلخيص توجهات الصراع في ثلاثة مجموعات:

١. مجموعة الدعوة للانفصال من الدولة واقامة دولة في شمال السودان.
استفادت هذه المجموعة من النتائج الكارثية للحرب والكراهية الاجتماعية التى نتجت عنها. يقتصر طرح هذه المجموعة على ان التعايش لم يعد ممكنا، ولذلك لا داعى للحرب وليذهب كل في حال سبيله حتى تتوقف دواعي التهميش تماما، فكل من يعتقد ان (الشمال النيلي او الجلابة) يهمشونه عليه ان يذهب لحاله حتى ينجو من تهميش الجلابة له. بلغ الياس بأعضاء هذه المجموعة مبلغا واصبح حديثها مقتصرا على دولة الشمال، وقال لى احد قياداتهم” ما عندنا بيهم شغلة نحن عايزين نعيش في سلام في دولتنا”!

٢.المجموعة الثانية يقوم طرحها على السيطرة تماما على الموارد لان قسمة الموارد الحالية غير منصفة والى ان يتم تغيير النسب الحالية يجب وقف التعدين وكل الاتوات التى تفرضها وزارة المالية على سكان الولايتين، لان الكثير من سكان الولايات الاخري لم يعد يساهموا في الدخل القومى بشىء، اما لخروج مناطقهم عن سلطة الدولة او نتيجة للفوضي الامنية وقد نتج عن ذلك تحمل سكان الولايتين عبء المنصرفات العامة لدولاب الدولة اضافة لاستمرار نهب الموارد الذى اشرنا له. تعتقد هذه المجموعة ان وزارتي المالية والمعادن يستهدفان افقارهم عن قصد من واقع اصرارهما على التمسك بقسمة ضيزى للموارد اضافة لتحميل مواطنى الولايتين عبء تكاليف الحرب ودولاب الدولة بفرض اتوات مفرطة عليهم مما زاد من فقرهم. يذهب هولاء ابعد من ذلك ويتهمون وزارة المالية صراحة انها تقوم دون تفويض من الولايتين ببيع نصيبهما البائس من الذهب، ثم تتحكم في تحويلات العوائد في الوقت الذى يناسبها. يري هولاء ضرورة ان يكون كل ذهب الولاييتن عندهما على ان تتم عمليات البيع بمشاركة الولايتين مع الشركة السودانية ثم يتم تحويل نصيب وزارة المالية بعد البيع. بناء على ذلك يقول هولاء ان وزارة المالية تنهبهم مرتين، مرة في منح الولايتين (عطية مزين) من ذهبهما، والمرة الثانية عند تصرف المالية في نصيبهما البائس بالبيع دون تفويض! ويري هولاء ان تسليم الولايتين نصيبها ذهبا يمكنهما من توفير احتياطات كبيرة تمكنهما من توفير ضمانات مالية للاستدانة داخليا او خارجيا لتطوير الحياة فيهما وخلق المزيد من الفرص للشباب.
لاحظت ان طرح هذه المجموعة يجد قبولا واسعا بين المواطنيين خاصة الشباب الذين يعانون ضنك العيش والفقر ويتسآلون لماذا يعيشون في كل هذا الفقر وولاياتهم تنتج الذهب؟
٣. المجموعة الثالثة يقوم طرحها على (ترك الجمل بما حمل) للدولة السودانية والانضمام لمصر.
يقوم طرح المجموعة على ان اصلاح الدولة السودانية امر ميئوس منه، وان تجربة المجرب تقود الى الندامة. و يقولون ان هنالك مجموعات كثيرة داخل الدولة الحالية لاهم لها سوي التمرد على الدولة واضعافها بغية الوصول للسلطة، وان هذه المجموعات لا يمكنها وصول السلطة بالطرق الديمقراطية لذلك تفتعل اسباب التمرد لتنال ما ليس من حقها. يضيفون الى ذلك ان شمال السودان اقرب وجدانيا للشعب المصري اكثر من مجموعات داخل السودان اضافة للتصاهر الكبير والمصالح التجارية وغيرها.
يلاحظ ان هذه المجموعة نشطة جدا وبدأت في بناء شبكات داخل الولايتين لطرح رؤيتها والدعوة لها علنا. يعزز طرح هولاء قولهم ان اجدادهم قتلوا من ذات المجموعات المتردة حاليا و لم يوقف تلك المقتلة الا الاستعمار، ثم عادت ذات المجموعات لتقتلهم وتنهب ممتلكاتهم و تدمر حياتهم، وان هنالك مجموعات سكانية لاهم لها سوي التمرد على الدولة وابتزازها لجني المكاسب، ولذلك فالمسؤولية تقتضي عليهم حماية الاجيال القادمة من ما حاق باجدادهم وبهم..! ويدللون على ذلك بأن هنالك حوالى ١٠١ حركة متمردة في اقليم واحد تدعي كلها التهميش وتريد نصيبا في السلطة والثروة ومتى ما حلت الدولة مشكلة مع بعضها فرخت ذات الحركات حركات اخري وهكذا دواليك، كما ان بعض هذه الحركات فرض علي سكان الولايتين اتفاقا لم يستشاروا فيه ولم يقبلوا به وتريد الدولة حملهم حملا على الموافقة على تنفيذه! وهكذا – كما يرون- ان حل المشكلة مع كل هذه الحركات يعد من رابع المستحيلات ولذلك الافضل الانضمام لدولة مستقرة لا يفرخ مواطنوها تمردا جديدا كل يوم… و هكذا تمضي سرديتهم!

هذا باختصار ما خلصت اليه من تفاصيل صراع وحراك اجتماعي يحتدم داخل الولايتين لا احد يعلم مآلاته. ربما يكون هنالك مجموعات اخري تقدم طرحا رابعا او خامسا، ولكن على اى حال لم اسمع حتى الان بها و لكن هذا لا ينف انهم موجودين.

قصدت من هذا المقال تنبيه الدولة والمهتمين الى ان هنالك صراع يختمر وقد قارب نقطة الانفجار ان لم يتم تدارك الامر والنظر في مسبباته ومعالجتها بصورة عاجلة. اما ترك الامر على ما هو عليه فهو بمثابة الوصفة السحرية لتفجر الصراع.
حقيقة استصعب علي استكناه مآلات هذا الصراع، لكن الثابت ان سكان الولايتين يحسون بظلم كبير يقع عليهم وان حقوقهم مهضومة وانهم مستهدفون من المليشيا ومن مجموعات اخري تسعي لافقارهم باخراجهم من مناجم ذهبهم تحت تهديد السلاح الذى مدتهم به الدولة.
وقبل ان تقع الفاس في الرأس كما يقال، ارى انه اصبح لزاما على الدولة الجلوس مع ممثلين لسكان الولايتين والنظر في مظالمهم والاستجابة لمطالبهم ضمانا لاستقرار الوطن فحدوث اى صراع في شمال السودان يعنى ضياع البلد، ذلك هو المنزلق الذي لا يعلمه الكثيرون!
خلاصة القول ان هنالك احتقان شديد وسط (جلابة الشمال النيلي) وان سياسة الدولة السابقة القائمة على انتظار الصراع حتى ينفجر ثم بعد ذلك تتحرك هو ما اورد بلادنا المهالك، وان تجنب هذا الصرع ما زال ممكنا ان نهضت الدولة بمسؤولياتها لرفع المظالم ورفض الابتزار وتوخى العدالة.

هذه الارض لنا

مقالات ذات صلة