في زمن الحرب لا يمكن أن تتوارى الصحافة خلف ستار الحياد ولا يمكن للصحفي أن يدعي أن مهمته هي نقل الأخبار فقط بينما الوطن ينهار أمامه وتحت قدميه والعدو يذبح أهله في الشوارع ويهدم المدن على رؤوس ساكنيها الحرب التي عاشها السودان لم تكن مجرد صراع بين جيش ومليشيا بل كانت معركة بين مشروع بقاء الدولة ومشروع إفنائها وكانت الصحافة في قلب هذه المعركة تمامًا كما كانت المدافع والدبابات في الميدان في لحظة الحقيقة انقسمت الصحافة إلى قسمين قسم حمل قلمه كمن يحمل سلاحه ووقف في خندق واحد مع الجيش يدافع عن الحقيقة وعن شرف المهنة وعن بقاء الدولة وقسم آخر انبطح أمام الحواضن السياسية التي طالما رأت في الجيش عدواً لمشاريعها ووجدت في المليشيا الأداة المثالية لكسر ظهر الوطن الحواضن السياسية لم تكن كيانات بريئة من الصراع بل كانت شريكة في كل ما جرى فهي التي احتضنت المليشيا في خطابها السياسي ووفرت لها الغطاء الإعلامي وقدمتها كقوة بديلة عن الجيش وبدلاً من أن يكون الصحفي عين الشعب وأذنه صار عين الحاضنة وأداة تنفيذ لمشروعها فُتحت منصات إعلامية بمسميات براقة تدعي الاستقلالية بينما هي في الحقيقة غرف عمليات ناعمة مرتبطة مباشرة بغرف تمويل وتوجيه خارجية كانت ولا تزال ترى في السودان مجرد ساحة لتصفية حسابات أو مجالاً لتوسيع نفوذها هذه المنصات صاغت خطابها بعناية لخدمة المليشيا فهي لا تسمي جرائم الاغتصاب والنهب والقتل باسمها الحقيقي بل تعيد صياغتها في عبارات مراوغة مثل تجاوزات فردية أو أحداث معزولة بينما تصف أي عملية عسكرية للجيش بأنها جريمة حرب بل وتعمل على تشويه سمعة الجيش وتقديمه للعالم كمجرد بقايا نظام بائد أو طرف قبلي في نزاع محلي وكأن الدفاع عن الوطن صار تهمة وكأن لانهم للوصولحماية الحدود والكرامة الوطنية جريمة يعاقب عليها القانون بعض الصحفيين لم يكتفوا بالترويج لهذا الخطاب بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث دخلوا في تحالفات مباشرة مع المليشيا حصلوا على حماية شخصية في مناطق سيطرتها ورافقوا قواتها في الميدان ونقلوا رواياتها حرفياً للناس مقابل استمرار وصول الدعم المالي أو الحفاظ على مكانتهم لدى الحاضنة التي ترعاهم بينما كان الصحفيون الوطنيون الذين رفضوا بيع الكلمة يتعرضون للمطاردة والاعتقال والتهديد وحتى القتل أو الإقصاء من أعمالهم هذه الحرب لم تكشف فقط خيانة الموقف بل كشفت أيضًا عجز المؤسسات الصحفية عن حماية استقلاليتها وانهيار أخلاقيات المهنة أمام إغراء المال والسلطة رأينا صحفيين يذرفون الدموع في مقالاتهم على زميل قُتل في مناطق سيطرة المليشيا بينما يلتزمون الصمت أو يبررون مقتل زميل آخر في مناطق الجيش رأينا من يكتب تقارير مطولة عن مأساة مدينة واحدة بينما يتجاهل عمدًا حصار الفاشر وتجويع سكانها حتى الموت ويتعامى عن المقابر الجماعية في دارفور وعن الاغتصاب الممنهج في نيالا وزمزم وعن عمليات التهجير القسري والقتل على الهوية التي تمارسها المليشيا وكأن حياة السودانيين ليست متساوية وكأن دماء بعض الضحايا أغلى من دماء الآخرين هذا النفاق الإعلامي لم يكن مجرد انحياز بل كان مشاركة فعلية في الجريمة لأن الكلمة في زمن الحرب يمكن أن تنقذ حياة أو تقتل شعباً بكامله الإعلام المنحاز للمليشيا لم يكن ينقل الحقيقة بل كان يصنعها ويعيد إنتاجها وفق ما يخدم مشروع الحاضنة كان يختار الصور التي تثير التعاطف مع المليشيا ويتجاهل الصور التي تفضحها كان يختار الضحايا الذين يستحقون التغطية ويتجاهل الآخرين كان يختار الكلمات التي تلمع صورة القائد الميداني للمليشيا ويتجنب أي كلمة قد تسيء لسمعته بينما هو في الميدان يحرق القرى ويقتل المدنيين ويغتصب النساء هذه ليست حرية صحافة ولا حق في التعبير هذه خيانة موصوفة للمهنة وللوطن الحرب ستنتهي يوماً لكن ذاكرة الشعب لن تنسى ولن تغفر ستبقى أسماء هؤلاء الصحفيين محفورة في قوائم العار كخونة الكلمة الذين جعلوا من أقلامهم جسراً لمشروع تدمير السودان وستبقى أسماء الشرفاء محفورة في ذاكرة الناس كأبطال حقيقيين حملوا الكلمة كسلاح ووقفوا في وجه الترهيب والتهديد لأنهم فهموا أن المعركة في الميدان لا تنفصل عن المعركة في الإعلام وأن من يظن الحياد في زمن العدوان بطولة فهو شريك صامت في الجريمة وأن من نافس العدو في تبرير جرائمه كان خنجراً مسموماً في خاصرة الوطن ومن باع الكلمة باع شرفه ومن باع شرفه باع وطنه ومن باع وطنه فقد باع نفسه للتاريخ كعبد للعار
فالصحفي، مثل القاضي، يحمل في يده ميزان العدل، والعدل لا يتجزأ ولا يقبل أن يميل بكفة على أخرى وفق الهوى أو المصلحة أو الانتماء الضيق. الصحافة التي تبرر الظلم أو تتغاضى عنه تتحول من سلطة رابعة إلى أداة قمعية، ومن منبر حر إلى منصة تزوير للتاريخ، ومن شاهد للحقيقة إلى شريك في الجريمة. الصحافة، حين تفقد نزاهتها، تصبح خيانة لا تقل عن خيانة القاضي الذي يبيع حكمه مقابل رشوة أو ولاء سياسي
الصحفي الحقيقي يعرف أن كل كلمة يكتبها قد ترفع رأس مظلوم أو تكسره، قد تفتح باب أمل أو تغلقه، وقد تكتب شهادة براءة أو وثيقة إدانة. لذلك، هذه المهنة أخطر من كل المناصب لأنها تتعامل مع الوعي الجمعي، ولأن الكلمة قد تكون أقوى من الرصاص، وأبقى أثرًا من أي قرار. الصحافة ليست مهنة الظلم ولا أداة العنف الرمزي، إنها مهنة الحرية التي لا تحيا إلا بالصدق، ومهنة العدل التي لا تزدهر إلا بالنزاهة، ومن يخونها يخون نفسه وتاريخه وشعبه.