*محمد طه.. ما لا تعرفونه! ضياء الدين بلال*

كنا على بعد خطوات من صفوف الصلاة على الراحل المقيم محمد طه محمد أحمد ،كم أجد صعوبة في أن أكتب كلمة الراحل عنه.
كان الصباح مشوشاً بالحزن محملاً بالغيظ على فاعل مجهول وقتها
تتسع دائرة الشك إلى أقصاها ويتحرك أصبع الاتهام في كل اتجاه.

قبل الصلاة كان الأستاذ المرحوم نزار أيوب يقلب معي قائمة الاتهام من فعلها؟!
قال نزار جملة لا تزال عالقة في ذهني:
“بغض النظر عن هوية الفاعل فالحقيقة الأهم أن هناك مستفيدين من غياب محمد فقد كان ذاكرة عقابية متحركة قادرة دوماً على محاكمة الآخرين في لحظات الصعود وعند تبديل المواقف”.

كنت أشعر بتلك الفكرة لكنها كانت مبعثرة في داخلي دون أن أتمكن من جمعها بالتركيز الذي ميز المرحوم نزار.
محمد طه كان يملك ذاكرة فوتوغرافية نادرة وقدرة بحث عجيبة ،يمر الاسم عابراً فتخرج من ود جنقال أدق المعلومات عنه
تاريخه ونشأته ومراحل صعوده وانكساره.

كانت بدايتي الصحفية معه في صحيفة الوفاق يكلفني أحياناً بعمل صحفي أو ينهاني عن موضوع محدد، تمضي الشهور فأهمل التكليف أو أكتب فيما نهاني عنه عناداً أو عدم اقتناع.
كنت أراهن على النسيان أو على سقوط التكليف بالتقادم لكنه كان يستدعي التفاصيل كأنها أمامه الآن
“أنا ما قلت ليك كدا وانت رديت علي وقلت كدا وكان قاعد فلان وفلان”
عندها تسقط كل الحجج وتبدو توجيهاته غير قابلة للتأويل.

بعد عامين من عملي بالوفاق تلقيت عرضاً مغرياً من صحيفة أخرى
قدمت استقالتي وغادرت
سأله أحد الأصدقاء عن خروجي فقال محمد طه:
“ضياء صحفي كويس لكن الحمد لله مشى مننا أصلو كان بكسر لينا الكراسي”😂.
حين سمعت العبارة لم أغضب فقد كان يملك قدرة نادرة على أن يجعلك تضحك على نفسك.
لكنني دهشت من موضوع الكراسي
تذكرت أن أول يوم عمل لي انهار كرسٍ متهالك من تحتي أمامه،لم يعلّق وقتها لكنه حفظ المشهد ليعيده في آخر يوم أغادر فيه.

محمد طه كان مبدعاً في كل حالاته
حين يكتب وحين يتحدث وحين يجالس الناس.
كنا نجلس لساعات في ونسة مفتوحة بلا سقف ولا جدران
متعة أن تصمت وتترك له الكلام كأنك في حضرة نهر يجري على مهل
والخريف يغسل للود كل شوائب الدنيا.

كم كانت الحوارات ثرية حين جمعتنا المجالس بالحاج وراق ومحمد طه في منزل نزار أيوب والدكتورة حنان حجازي.
وكم كانت دافئة حين يتحاور الأستاذ مع الأستاذ عادل إبراهيم حمد في مساء تفوح منه رائحة الكمون بصحيفة الوفاق.
وتضحك الدنيا كلها حين يجتمع طه مع شجر وجمال والطاهر والهندي والمدني وخالد والمادح.

مضت الأيام لكن ذكرياتنا لا تزال حية تستمد عافيتها من نكاته ولمزاته ولمعان روحه.
فقد كان يملك سر الكلام ويفتح بمفتاح السخرية أبواب الدهشة.

اغتيال محمد طه لم يكن اغتيال جسد فحسب كان اغتيال ذاكرة استثنائية ، تعاقب البعض بسياط الماضي وتمنح آخرين سكينة الحق.
*في ذكرى رحيله التاسعة عشر.

مقالات ذات صلة