*السودان.. السلاح في وجه الشعب مصطفى عبد العزيز عثمان*

منذ أن عرف السودان دولته الحديثة ظل الجيش هو المؤسسة الأكثر حضورًا في المشهد السياسي، ليس باعتباره قوة عسكرية فقط، بل بوصفه لاعبًا سياسيًا يفرض نفسه في كل مرحلة انتقالية. فمنذ انقلاب إبراهيم عبود في عام 1958، مرورًا بجعفر نميري وعمر البشير، وصولًا إلى عبد الفتاح البرهان، ظل الجيش السوداني صانع السلطة وحارسها، لكنه اليوم يبدو في موقع مختلف تمامًا. فالمؤسسة التي اعتادت أن تقدم نفسها كدرع الوطن وركيزته الأمنية تحولت إلى عبء على الشعب، وأضحت شريكة في معاناته بدلًا من أن تكون حامية له.

التحول يتجلى بأوضح صورة في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، حيث يعيش مئات الآلاف من المدنيين في حصار طويل المدى. الغذاء نادر، الأدوية شبه معدومة، والأسعار تجاوزت قدرة معظم الأسر. شهادات من داخل المدينة وخارجها تصف طرقًا مغلقة ونقاط تفتيش عسكرية تمنع الحركة وتحوّل الخروج إلى مغامرة مكلفة وخطيرة. ما يحدث هناك لا يشي بأن الجيش يضطلع بدوره الطبيعي كقوة حماية، بل يعكس أنه جزء من الأزمة نفسها.
وجود المدنيين وسط مواقع الاشتباك ومنعهم من قبل الجيش من المغادرة لم يعد حادثًا عابرًا، بل أصبح حالة مستمرة تشير إلى غياب إجراءات الحماية وفصل الأهداف العسكرية عن الأحياء السكنية، وهو ما جعل حياة السكان اليومية رهينة لقرارات عسكرية لا تراعي الحد الأدنى من معايير القانون الدولي الإنساني.

الأوضاع الإنسانية المنهارة داخل الفاشر تكشف عمق هذا الإخفاق، المستشفيات توقفت عن العمل بسبب نقص الإمدادات والوقود، المخيمات التي كانت ملاذًا للنازحين تحولت إلى بؤر للجوع والمرض، والتقارير الطبية تتحدث عن وفيات رغم فتح ممرات إنسانية من قبل القوات التابعة لتحالف “تأسيس” وصلت اليها بالفعل مئات العائلات التي استطاعت الفرار والإفلات من حصار الجيش والكتائب المتطرفة الحليفة .

حتى في لحظات القصف، لم يحصل السكان على إنذارات كافية، ما جعلهم عالقين في قلب المعارك من دون قدرة على النجاة. وفي ظل هذا الواقع، يجد الجيش نفسه متهمًا ليس فقط بالعجز، بل بتعمد إبقاء المدنيين في دائرة الخطر، إما كوسيلة للضغط أو كعامل ميداني يقيّد حركة الخصوم.

هذا الانهيار في العلاقة بين الجيش والمجتمع لم يمر دون انتباه المجتمع الدولي
العقوبات الأميركية التي طالت عبد الفتاح البرهان في يناير 2025 مثلت نقطة فاصلة، إذ لم يعد الأمر يتعلق بقائد عسكري يتخذ قرارات داخلية، بل بشخص أدرج رسميًا في قوائم العقوبات. وحين توسعت هذه الإجراءات في يونيو على خلفية استخدام أسلحة كيميائية، انتقل الجيش السوداني من خانة المؤسسة الوطنية إلى خانة المؤسسة المتهمة بارتكاب جرائم دولية) لم يعد يُنظر إلى الجيش كشريك في أي تسوية، بل كعقبة تتطلب معالجة وضغطًا.

هذه العقوبات لم تقتصر على الأثر المالي أو السياسي، بل أصابت صورة الجيش في الصميم. فالمؤسسة العسكرية تستمد شرعيتها من احترام داخلي وخارجي، وحين يُنظر إليها على أنها مسؤولة عن حصار مدنها واستخدام وسائل محرمة دوليًا، فإن ما تبقى من هذه الشرعية يتبخر بسرعة. البرهان نفسه، الذي حاول مرارًا أن يظهر كرجل دولة، وجد نفسه في موقع العزلة الكاملة، غير قادر على تسويق نفسه لا داخليًا ولا خارجيًا.

المدنيون الذين يعيشون تحت الحصار في الفاشر وأماكن أخرى باتوا يرون في الجيش سببا في معاناتهم، وليس حاميًا لهم.
ومع كل يوم جديد يمر، تتقلص الثقة، ويصبح من الصعب تصور أن هذه المؤسسة يمكن أن تعود لتكون عنصر استقرار. التجارب الإقليمية والدولية تشير إلى أن الجيوش التي ترتكب جرائم بحق شعوبها تفقد القدرة على لعب أي دور إيجابي في مستقبل بلدانها ما لم تخضع لإصلاحات جذرية وشاملة.

المسألة لا تقف عند حدود السودان؛ انهيار السيطرة العسكرية في دارفور أدى إلى تسرب السلاح إلى دول الجوار مثل تشاد وليبيا ومالي والنيجر، ما يعزز قدرات الجماعات المسلحة ويغذي التطرف في منطقة الساحل.
تقارير متعددة تؤكد أن الأسلحة التي خرجت من مخازن الجيش السوداني أو من مناطق النزاع باتت جزءًا من الأسواق غير المشروعة التي تغذي الصراعات الإقليمية. هذا التطور يسلط الضوء على تناقض صارخ: جيش يعلن أنه يحمي الدولة بينما يساهم عمليًا في زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.

في ظل هذا المشهد، يبرز سؤال جوهري حول مستقبل المؤسسة العسكرية في السودان. هل يمكن لجيش فقد شرعيته داخليًا وخارجيًا أن يكون جزءًا من أي عملية انتقالية؟ وهل يمكن أن يستعيد ثقة شعبه بعد أن تحوّل إلى طرف في معاناته؟ الإصلاح العسكري ليس مجرد تغيير قيادات أو أسماء، بل إعادة صياغة العقيدة والوظيفة والدور. جيش ضد شعبه لا يمكن أن يتحول بسهولة إلى جيش للشعب. الثقة المهدورة لا تُستعاد بالتصريحات، والذاكرة المثقلة بالحصارات والانتهاكات لا تُمحى بقرارات سياسية عابرة.

مقالات ذات صلة