في لحظةٍ فارقة، حين يتلوى الوطن بين أنياب الجوع والدم والرصاص، يخرج علينا بعض من يُسمَّون “قونات الفن” يتسابقن إلى المنصات، يرفعن أصواتهن بالغناء للجيش أو لأي طرفٍ مسلح، كأنّ الغناء صار سلاحًا للتباهي، لا وسيلة لتضميد الجراح. وكأنّ دماء الشهداء لم تجف بعد على الأسفلت، وكأنّ صرخات الأمهات لم تملأ الفضاء حزنًا وكسرة.
الفن يا هؤلاء ليس طبلاً أجوف يُقرع عند موائد السلطان. الفن ليس مسرحًا للتكسب الرخيص وسط الحطام. الفن، في جوهره، موقفٌ أخلاقي قبل أن يكون نغمةً أو صوتًا. من يختار الاصطفاف مع السلاح، إنما يُحوّل نفسه إلى بوقٍ أجوف، إلى أداةٍ في يد الطغاة، إلى صدى للرصاص بدل أن يكون صدى للحياة.
لقد عاد فنانيو الكيزان، بوقاحةٍ مدهشة، يرددون نفس الأناشيد التي كانت وقودًا لمحرقة هذا الوطن. تلك الأهازيج “الجهادية” التي ساقت شباب السودان إلى الموت الزائف، وحوّلت الفقراء إلى وقود لحربٍ عبثية، وسقطت بها البلاد في بركة الفوضى والدمار. لم يتعلموا شيئًا. لم يعتذروا. لم يتوقفوا للحظة أمام الخراب الذي صنعوه بأنغامهم المسمومة. بل ها هم يطلّون بوجوههم الشاحبة، يعيدون إنتاج الكارثة، ويغنون من جديد للدم، لا للإنسان.
أيها الفنانون، إذا أردتم أن تساعدوا الشعب بحق، فليس بالصراخ في الميكروفونات ولا بالتباهي أمام الكاميرات. ساعدوا شعبكم بالصمت إن لم تقدروا على الغناء للحقيقة. اصمتوا احترامًا لجراحٍ تنزف. اصمتوا كي لا تفتحوا على الناس أبواب الذكريات السوداء التي نزفنا بسببها دمًا وأرواحًا. فالصمت أحيانًا أكرم من ضجيجٍ يُستغل ضد هذا الشعب المنكوب.
الفن إما أن يكون ضميرًا حيًا أو لا يكون. إما أن يقف في صف الحرية والعدالة، أو يُدفن مع أبواق الكيزان تحت ركام الخيانة. والغريب أن بعض هؤلاء “القونات” يتباهين بأن الغناء للجيش نوعٌ من الوطنية، بينما الوطنية في معناها الأسمى لا تُقاس بالمديح للعسكر، بل بالانحياز للشعب، للإنسان، للدم المراق ظلماً، للعدالة التي غابت، وللمستقبل الذي يُذبح كل يوم.
الفن، في بلادٍ مثل بلادنا، يجب أن يكون مقاومة، لا تطبيعًا مع القتلة. يجب أن يكون مرثيةً صادقة لضحايا ود النورة، زمزم، تمبول، الجنينه، وكل القرى التي أُحرقت. يجب أن يكون غضبًا يجلجل في وجه المليشيات، لا أناشيدًا تخدّر وعي الناس.
من لم يتعلم من سقوط الأناشيد “الجهادية” التي جرّت السودان إلى هذا المستنقع، سيعيد ارتكاب نفس الجريمة، وسيظل وصمة عار على جبين هذا الوطن.
لهذا أقولها بوضوح: إما أن يكون الفن صوت الحرية، أو يظل وصمةً أخرى من وصمات هذا الخراب.