مع اكتمال سد النهضة بالإعلان الأحادي من طرف إثيوبيا في إطار سياسة فرض الأمر الواقع وبسط السيطرة وتأكيد الهيمنة على النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بـ85% من موارده المائية،وعزمها تدشينه رسمياً بعد موسم الأمطار هذا العام، تثار تساؤلات حول مدى المخاطر والأضرار لمصالح مصر والسودان إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم،يضمن أمان السد والأمن المائي والتعويض عن الأضرار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.
هذا الجدل المعاصر لا يمكن فصله عن جذور تاريخية تعود لأكثر من قرن من الزمان، حين بدأت أولى الاتفاقيات التي قيدت استخدامات مياه النيل، وأدخلت النزاع حوله إلى قلب السياسات الإقليمية. كان ذلك في لحظة مبكرة من القرن 20، حينما وُقّعت اتفاقية عام 1902 بين الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني وبريطانيا التي كانت تمثل مصر والسودان آنذاك. وقد نصّت الاتفاقية بوضوح على التزام إثيوبيا بعدم إقامة أي مشروعات على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط؛ دون موافقة دول المصب.
تعتبر القاهرة والخرطوم هذه الاتفاقية سندًا قانونيًا صريحًا يُبطل مشروعية السد الحالي، خصوصًا أن منطقة بني شنقول -التي أُقيم عليها السد- كانت ضمن السودان ثم ألحقت بإثيوبيا بموجب الاتفاق ذاته الذي استخدمته أديس أبابا نفسها سندا قانونيا في ترسيم حدودها مع إريتريا. ولكن فيما يتعلق بنهر النيل، تعتبر إثيوبيا أن تلك الاتفاقية (وسائر اتفاقيات تقاسم المياه المبرمة في زمان الاستعمار البريطاني، ومنها اتفاقية عام 1929 التي منحت مصر حق الاعتراض على أي مشروعات تقام على النهر دون موافقتها)،
*تجاوز إعلان المبادئ*
أديس أبابا تجاهلت البند الخامس من “إعلان المبادئ” الموقّع عام 2015 مع مصر والسودان، والذي ينص على ضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد،بل ان إثيوبيا لم تلتزم بإخطار دولتي المصب بأي طوارئ أو تغييرات في تدفق المياه، وظلت المواقف الإثيوبية خلال المفاوضات العبثية تتسم بالمراوغة والتراجع بهدف فرض سياسة الأمر الواقع لانها لا تريد ان تحسم امر عشرات المليارات من المياه،التي حجزتها في بحيرة السد، وهي تمثل جزءاً من حصتي مصر والسودان»، كما تريد ان تهرب من حقيقة ان مليارات الأمتار من المياه التي يتم فقدها من البخر والرشح، وتخصم من الحصة السنوية لدولتي المصب هذه الأضرار الكبيرة أقر بها الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أخيراً، بأن «مشروع السد، يمنع المياه عن مصر.
*زلازل المتكررة*
ومع الإعلان الأحادي لتشغيل مشروع سد النهضة الذي تبلغ سعته التخزينية 74 مليار متر مكعب وحدوث الزلازل المتكررة في إثيوبيا خلال العام الماضي، أثيرت عدة تساؤلات حول السد الإثيوبي، وهي: ما هي التحديات التي تواجها إثيوبيا بعد ملء السد؟، وماهي الانعكاسات السلبية على دول حوض النيل جراء هذا الملء؟، وما المخاطر التي قد يتعرض لها السد في ظل السعة التخزينية الكبيرة؟.
بينما كانت إثيوبيا تشهد في المتوسط من 3 إلى 6 زلازل سنويا، تعرضت خلال 14 يوما في الفترة من “21 ديسمبر 2024 إلى 4 يناير 2025” إلى 130 زلزالا، وأثار هذا الارتفاع في النشاط الزلزالي تساؤلات حول تأثيره المحتمل على السد، رغم الزلازل الحالية بهذه القوة 4-6 درجة والمسافة التي تتراوح بين 500 – 600 كم من سد النهضة لا تؤثر عليه إلا إذا اقتربت المسافة أو زادت القوة عن 6.5 درجة على مقياس ريختر،لذلك لابد من إجراء دراسات جيولوجية وبيئية حديثة للمنطقة المحيطة بالسد، للحفاظ على سلامة السد، وكان قد أجري مكتب الاستصلاح الأمريكي دراسات بين عامي 1958 و1964 بطلب من أديس أبابا، والتي تم من خلالها تحديد حجم التخزين على أن لا يتجاوز 11.1 مليار متر مكعب، وهو ما لم تنفذه إثيوبيا إذا استمرت في ملء السد إلى أن وصل إلى أكثر من 62 مليار متر مكعب من المياه.
*توقف التوربينات*
تكمن أهمية الاتفاق بين إثيوبيا ودول المصب في اتفاقية فنية بشأن عملية ملء وتشغيل سد النهضة،تحدد القواعد الفنية للتعبئة والتشغيل وتبادل المعلومات، خصوصاً بعد ان واجهت إثيوبيا مشاكل في اغسطس ٢٠٢٤ تمثلت في توقف التوربينات عن التشغيل وعادت إلى العمل في منتصف ديسمبر 2024، على الرغم من أن سعة تخزين المياه كافية لتشغيل التوربينات “ماذا يعني توقف التوربينات وماهي أضراره على السودان؟”
توقف توربينات سد النهضة الإثيوبي قد يشكل خطرًا جسيمًا، خاصة مع التوقعات بهطول أمطار غزيرة في أغسطس المقبل، مما قد يؤدي إلى امتلاء خزان السد بشكل كامل ويزيد من حدة الأزمة المائية،أن حدوث أي خلل أو تلف في سد النهضة قد يؤدي إلى فيضان مدمر يهدد حياة نحو 30 مليون شخص يعيشون على ضفاف النيل الأزرق في السودان، بينما لن يتأثر السكان الإثيوبيون، نظراً لموقع السد على الهضبة الإثيوبية التي تخلو من التجمعات السكنية.
السودان هو المعني بالضرر الاول من سد النهضة لقرب المسافة بين سدي النهضة والروصيرص. سبق أن تضرر السودان في السنة الأولى للملء في عام 2020، عندما خرجت بعض محطات مياه الشرب في الخرطوم عن الخدمة لعدة أيام، لعدم الإخطار بالتخزين في ذلك الوقت، رغم ضآلة الكمية المخزنة (حوالي 4 مليارات متر مكعب فقط). بعد هذه الحادثة، عمل السودان على إجراء تحوطات فنية (mitigation measures) لتلافي مثل هذه المفاجآت. لذا، فإن وجود اتفاق قانوني ملزم حول الملء والتشغيل، أو على الأقل تبادل المعلومات، شرط أساسي لإثبات المصداقية.
*تسرب مياه السد*
من بين أهم الأهداف المعلنة لسد النهضة الإسهام بشكل كبير في توليد الطاقة الكهرومائية لدعم التنمية في إثيوبيا ودول الجوار، لكن دراسة دولية كشفت عن تسرب كمية كبيرة من مياهه، مما قد يمثل تحديا أمام تحقيق هذا الهدف.
وقدرت الدراسة -التي أجراها فريق دولي من علماء الهيدرولوجيا والجيولوجيا- حجم تسربات ضخمة للمياه من خزان السد تقدر بنحو 19.8 مليار متر مكعب خلال السنوات الثلاث الأولى من ملء السد، وهو ما يسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة تقييم عاجلة لإستراتيجيات إدارة المياه في حوض النيل، على ألا تغفل هذه الإستراتيجيات الدور الذي تلعبه تلك المياه المتسربة في تحفيز النشاط الزلزالي الذي قد يؤثر على سلامة السد نفسه.
وختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من السعة التخزينية الكبيرة لسد النهضة الإثيوبي، إلا أن إثيوبيا تواجه تحديات عدة قد تؤثر على إدارة وتشغيل السد، وأهمها التوترات مع دولتي المصب التي تتمسك بحقهما في مياه النيل، لذلك يتوجب على أديس أبابا أن تواجه تلك التحديات أولاً، فضلاً عن المخاطر المُحتملة التي قد يواجها السد سواء نتيجة للفيضانات أو الزلازل، مما يتطلب من أديس أبابا اتخاذ تدابير مناسبة لضمان سلامة السد. وعليه، يُعد الحل الأمثل لحل قضية سد النهضة هو تقاسم المياه للتمكن من إدارة وتشغيل السد وفق اتفاق قانوني مُلزم لدول المنبع ودولتي المصب؛ للمساعدة في تقليل العجز المائي لمصر والسودان،