في الخامس من أكتوبر، يوم المعلم العالمي، أجد نفسي أمام لحظة صمت مؤثرة، أسترجع فيها كل من ترك بصمته على حياتي، كل من علمني حرفًا قبل أن يعلمني معنى الحياة. هذا اليوم ليس مجرد تاريخ على التقويم، بل عيد لكل من زرع المعرفة والكرامة في النفوس، عيد لكل من صار نورًا في طريق البحث عن الحقيقة، عيد لكل من علمنا كيف نفكر قبل أن نحفظ، كيف نحلم قبل أن نتبع، وكيف نحيا بإنسانية قبل أن نعرف العالم.
في هذا اليوم، أبدأ تحيتي من أمي، سعاد صالح، المعلمة الأولى والأهم في حياتي. أمي التي لم تكن مجرد أم، بل كانت مرشدة، صديقة، قدوة، ومنارة. هي من علمتني أن الكلمة لها وزن، وأن الصمت عن الظلم جريمة، وأن الحق لا يُعطى بل يُنتزع بالقلم والعقل والإيمان الصادق. أمي لم تقتصر على تعليمي الحروف والكلمات، بل غرست فيّ الشجاعة، الكرامة، والقدرة على الوقوف أمام الظلم بلا خوف. أمي علمتني أن المعلم الحقيقي يزرع الفكر والضمير قبل أن يعلّم المنهج، وأن التربية ليست مجرد مقررات دراسية، بل رسالة حياة تؤثر في كل لحظة من وجودنا.
ثم تأتي معلماتي الغاليات، اللواتي كنّ يرسمن الطريق أمام عيوننا الصغيرة، ويرسمن في قلوبنا حب المعرفة والإنسانية والبحث عن الحقيقة. تحية خاصة للأستاذة عائشة قيدوم، التي كانت تفتح لنا أبواب العقل والخيال مع كل درس، وتعلّمنا أن الصبر والمثابرة جزء من المعرفة الحقيقية. وللأستاذة آمنة مطر، التي جعلت من كل حصة تجربة حياتية، تروي لنا القصص قبل أن تروي القواعد، وتعلمنا أن الدرس الحقيقي هو ما يبقى في القلب وليس فقط على الورق.
ولا يمكن أن يكتمل هذا الاحتفاء دون ذكر الأستاذ الراحل حيدر، الذي زرع فينا مهارات لغوية لا تُنسى في جامعة الخرطوم، وجعلنا ندرك أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل أداة لصياغة الفكر وبناء الشخصية، وسلاح لفهم العالم والتغيير فيه. كل كلمة قالها كانت درسًا في الانضباط والإبداع، وكل تصحيح من يده كان فرصة لنمو العقل والضمير.
أما أساتذتي في كلية الآداب، فقد كانوا جميعًا أعمدة العلم التي قامت عليها رحلتي الأكاديمية والفكرية. لكل واحد منهم، سواء في قسم الفلسفة أو الأدب، تحية امتنان، لأنهم علمونا أن المعرفة مسؤولية قبل أن تكون حقًا، وأن الحرية الفكرية هي أول درس في أي تعليم حقيقي.
وهنا، لا أنسى كل من علمني حرفًا صغيرًا، كل معلم ومعلمة تركوا أثرًا في قلبي ووجداني، كل من صبر على أخطائنا الصغيرة، وكل من آمن بأننا نستحق التعلم والكرامة، وأن المستقبل يُصنع بصبرهم وعطائهم. اليوم، أتوجه إليهم جميعًا بتحية حارة من قلب يتذكر كل ضحكة، كل نصيحة، كل تصحيح، وكل شعور بالأمل الذي منحوه لنا، حتى في أصعب اللحظات.
إن يوم المعلم ليس مجرد مناسبة على الورق، بل هو فرصة للتذكير بالمعلمين الذين صمدوا أمام الجهل والفساد والتحديات، وأيقظوا فينا القدرة على الحلم والتعلم والتغيير. يوم المعلم هو يوم لكل من جعل العالم مكانًا أفضل، ليس بالتظاهر، بل بالحب الصادق للمعرفة وبالتمسك بالقيم الإنسانية.
وفي هذا اليوم، أرفع تحية خاصة لكل معلم ومعلمة في حياتي، ولكل من علمني حرفًا، ولكل من شكل ضميرًا في قلبي، ولكل من جعل من حياتي رحلة لا تُنسى. شكراً لكل ليلة سهرتها والدتي لتعلمني، ولكل كلمة حكمة نطقت بها معلماتي، ولكل تصحيح علمنا من خلاله الأسلوب والفكر على يدي الأستاذ الراحل حيدر، ولكل أساتذتي في كلية الآداب الذين رسخوا فينا معنى العلم الحقيقي.
فلتعرف الأجيال القادمة أن المعلم ليس مجرد مهنة، بل رسالة، وأن كل معلم ومعلمة هم صناع المستقبل الحقيقيين، وحراس الإنسانية في عالم يموج بالجهل والظلم. فليكن هذا اليوم فرصة لنقول بصوت عالٍ: شكراً لكم، أيها المعلمون والمعلمات، أنتم أبطال الحياة الحقيقية، وأنتم من يجعلون العالم مكانًا أفضل ببساطة لأنكم تعلّمون من القلب قبل أن تدرّسوا من الكتاب.