*مستشارون بين ضغوط الدور وصراعه… حين تؤثر الحوافز على حياد العدالة بروفسور طارق الصادق عبد السلام أستاذ علم الاجتماع وتأصيل العلوم*

في المؤسسات الحكومية، يمثل المستشار القانوني عين العدالة وضمير النظام الإداري، فهو المرجع الذي يُفترض أن يزن القرارات والممارسات بميزان القانون لا بالمصالح.
غير أن الواقع العملي كشف عن ثغرة دقيقة تتعلق بالمستشارين القانونيين المنتدبين من وزارة العدل إلى الوزارات والهيئات، إذ تتولى بعض الجهات المنتدب إليها صرف مخصصات مالية أو حوافز مباشرة لهؤلاء المستشارين.
هذه الممارسة، وإن بدت في ظاهرها دعمًا وتشجيعًا، إلا أنها تخلق في جوهرها حالة من تضارب المصالح وتفتح الباب أمام تأثيرات تمسّ الحياد المهني.
صراع الدور وضغط الدور.. مفهومان من علم الاجتماع يفسّران الظاهرة

من المفيد هنا استحضار مفهومين أساسيين من علم الاجتماع المهني والتنظيمي، يشرحان بدقة ما يحدث في مثل هذه الحالات:

صراع الدور (Role Conflict):
هو حالة من التوتر تنشأ عندما يُطلب من الفرد أداء أدوار متعارضة أو غير منسجمة في الوقت نفسه.
فالمستشار القانوني المنتدب يعيش هذا الصراع بين ولائه المهني لوزارة العدل – باعتبارها المرجعية القانونية العليا – وبين توقعات الجهة المنتدب إليها التي تمنحه الحوافز وتنتظر منه المرونة أو التوافق مع مصالحها الإدارية.

ضغط الدور (Role Strain):
هو الشعور بالضيق أو الإجهاد النفسي الناتج عن تعدد المهام أو تضارب التوقعات في إطار الدور الوظيفي نفسه.
ويحدث ذلك عندما يُطالب المستشار بأن يكون مراقبًا ومحاميًا في آنٍ واحد، أو حين يتعرض لضغوط ضمنية تجعله يوازن بين الالتزام بالقانون والمحافظة على علاقاته الوظيفية.

هذه المفاهيم التي رسخها علم الاجتماع منذ منتصف القرن العشرين، تكشف أن التعارض بين المهني والعاطفي أو المصلحي يؤدي غالبًا إلى اضطراب في القرار وخلل في العدالة المهنية.

دروس من المهن الحساسة: القضاء والطب نموذجًا

في المهن الحساسة التي تتطلب حيادًا تامًا، وُضعت قيود صارمة تمنع أي تأثير خارجي:
– القضاة يُعزلون عن المجتمع الذي يفصلون في قضاياه ضمانًا لاستقلالهم.
– الجرّاحون يُمنعون من إجراء عمليات لأقاربهم من الدرجة الأولى منعًا لأي انحياز عاطفي.

فمن باب أولى أن يُحمى المستشار القانوني من أي ضغوط مالية أو إدارية قد تمس حياده أو تؤثر على رأيه القانوني داخل المؤسسة التي يُنتدب إليها.

الأثر الأخلاقي والإداري

حين يتلقى المستشار القانوني المنتدب مخصصاته مباشرة من الجهة المستفيدة، تتولد آثار عميقة وخطيرة على المدى البعيد:
– تتآكل الحيادية تدريجيًا مع الزمن.
– تضعف الثقة العامة في منظومة العدالة الإدارية.
– تتحول الحوافز إلى وسيلة ضغط غير مباشرة.
– وتُصبح الاستشارات القانونية أداة توافق أكثر من كونها وسيلة تقويم.

ومتى ما اختل ميزان الحياد، تضاءلت قدرة المؤسسة على تصحيح قراراتها الإدارية، بل تفقد العدالة معناها المؤسسي.

الحل: تنظيم المخصصات عبر وزارة العدل

لتصحيح هذا الوضع دون المساس بحقوق المستشارين، يُقترح أن تعتمد الدولة نظامًا موحدًا لتنظيم المخصصات والحوافز يقوم على ما يلي:
1. تحديد سقف الحوافز والمخصصات وفق معايير واضحة تراعي طبيعة الجهة المنتدب إليها وحجم المسؤولية القانونية.
2. تحويل المخصصات المالية من الجهة المستفيدة إلى وزارة العدل ضمن بند مالي محدد.
3. قيام وزارة العدل بصرف المخصصات مباشرة للمستشارين المنتدبين ضمن مرتباتهم الشهرية.

بهذه الآلية تُصان استقلالية المستشارين وتُغلق أبواب التأثير غير المشروع وتُعزز الثقة في النزاهة المؤسسية.

لائحة مقترحة:

ينبغي أن تتضمن لائحة تنظيم عمل المستشارين القانونيين بندًا صريحًا على النحو التالي:
“يحظر على المستشار القانوني المنتدب تلقي أي مخصصات أو حوافز مالية مباشرة من الجهة المنتدب إليها، وتُصرف جميع استحقاقاته عبر وزارة العدل لضمان استقلاله المهني.”

خاتمة: العدالة لا تُشترى بالحوافز

إن العدالة الحقيقية لا تُبنى فقط في ساحات القضاء، بل في المنظومات الإدارية التي تصنع القرار وتفسّره.
وكلما ابتعدنا بالمستشار القانوني عن دوائر النفوذ والضغوط، كلما اقتربنا من روح العدالة ذاتها.
فاستقلال المستشار ليس مصلحة شخصية، بل ضمانة وطنية لحماية مؤسسات الدولة من التداخل بين القانون والمصلحة.

مقالات ذات صلة