*الفاشر : المدينة التي دفعت الدماء ثمن خلافات القيادة*

الفاشر ليست مجرد مدينة على خريطة دارفور، بل هي شاهد حي على المأساة التي يمكن أن تحدث عندما تتحول الخلافات الداخلية إلى أولوية على حياة البشر. المدينة التي كان من المفترض أن تكون مأوى للمدنيين، تحولت إلى ساحة جحيم حيّة، حيث كل صراع قيادي يتحول مباشرة إلى موت ومعاناة.خلافات القيادة التي عصفت بالفاشر لم تكن مجرد صراعات على المناصب أو النفوذ، بل كانت سلاحًا قاتلًا يوجَّه مباشرة إلى كل من يعيش داخل المدينة، سواء كان مدنيًا أو عسكريًا. كل نقاش، كل مناورة، كل تأجيل في اتخاذ القرار، كان يُترجم فورًا إلى يوم جديد من الحصار، يوم جديد من الحرمان، يوم جديد من الخوف الذي يلتهم الطفولة ويهزم الإنسانية للمدنيين، الذين لم يكن لهم أي دور في هذه الصراعات، وجدوا أنفسهم عالقين بين حصار لا يرحم وصراع داخلي يحرق المدينة حجرًا حجرًا. النساء والأطفال كانوا الأكثر تضررًا، فقد خسروا الطعام والأمان، وعاشوا لحظات من الرعب المستمر، بينما القيادة كانت منشغلة بصراعاتها الداخلية، غير عابئة بأي حياة تُزهق نتيجة تأجيل القرار أو رفض التحرك.
العسكريون الذين كانوا موجودين داخل المدينة لم يكونوا أقل عرضة للخطر، بل كانوا أسرىالتناقضات الداخلية، ضحايا التردد والارتباك في القيادة، يواجهون الموت بسبب أخطاء لا تعود إليهم. كل مناورة تأخير، كل تعليمات متضاربة، كل صراع على القيادة كان يؤدي إلى فقدان التنسيق، زيادة الفوضى، وارتفاع الخطر على الجنود أنفسهم. هؤلاء العسكريون، الذين انتظروا توجيهات واضحة للتحرك، وجدوا أنفسهم محاصرين بين مسؤولية حماية المدنيين وبين قرارات لم تُنفذ في الوقت المناسب.
المدينة شهدت حصارًا طويلًا استمر شهورًا، جعل الحياة اليومية كابوسًا مستمرًا. الأسواق أصبحت ساحة للمعارك على الغذاء، المستشفيات خالية من الأدوية، المدارس تحولت إلى ملاجئ مؤقتة للذين فقدوا منازلهم، كل ذلك كان نتيجة الخلافات الداخلية بين القيادات حول ماذا لا تعرفه جاي الان، .الألم لم يقتصر على الحرمان المادي، بل شمل الجانب النفسي للناس. كل يوم إضافي من التأخير كان يعني أن الأطفال يعيشون في خوف دائم، النساء يكتوين من الحرمان والفقدان، والرجال العسكريون يواجهون صعوبة في أداء واجبهم بسبب غياب القيادة الفاعلة. كل هذه الظروف أدت إلى انهيار شبه كامل للنسيج الاجتماعي للمدينة، وتحويل كل لحظة إلى صراع للبقاء.ما يزيد الطين بلة أن الخلافات الداخلية استمرت حتى اللحظات التي كان يمكن فيها التدخل لإنقاذ المدينة. كل ساعة تأخير كانت تضيف إلى المأساة، وكل يوم إضافي من التأجيل كان يعني زيادة القتلى، ارتفاع نسبة الجوع، تفاقم الأزمات الصحية، وفقدان أي أمل بالنجاة.
النساء والأطفال كانوا الضحايا الأبديين لهذا الصراع. كانوا يشهدون الحرمان والجوع والخوف، ولم يفهموا أبدًا لماذا تُترك مدينتهم لتنهار بينما الصراعات تتصاعد في غرف القيادة. كل يوم تأخير كان يضيف إلى الفاجعة، وكل جدال عقيم حول الأولويات كان سلاحًا ضد الإنسانية نفسها.المدينة اليوم ليست مجرد مدينة محروقة، بل تحذير حي لكل من يظن أن الخلافات الداخلية يمكن أن تُترك دون مساءلة، وأن أرواح المدنيين والعسكريين ليست قيمة كبرى. كل حجر محترق، كل شارع مهجور، كل وجوه الأطفال الجائعة، هي شهادة على أن الفاشر التي كان من الممكن أن تكون رمزًا للصمود أصبحت رمزًا للفشل الإداري، وتحذيرًا حقيقيًا لكل من يستخف بالقيمة الحقيقية للأرواح في أي صراع داخلي.الفاشر لم تدفع ثمن الحرب وحدها، بل دفعت ثمن خلافات القيادة، تأجيل القرار، وحسابات النفوذ الشخصي. المدنيون والعسكريون الذين كانوا داخل المدينة أصبحوا ضحايا حقيقيين، دفعوا أرواحهم ثمنًا لأخطاء ليست من صنعهم. المدينة تعلمنا درسًا مؤلمًا: عندما تتصارع القيادة على السلطة، فإن كل من يعيش تحتها دفع الثمن
مناوي، الرجل الذي لطالما اعتبرناه صمام أمان للمدينة، اعترف بتقصيره. لكن هذا الاعتراف لا يمحو الخيانة الصامتة التي ارتكبها هو وضباطه، الذين بدلًا من أن يسرعوا بالإنقاذ، تبادلوا الصراعات والاتهامات، بينما كانت الفاشر تُذبح ببطء. هل كان من الممكن إنقاذ المدينة؟ نعم، لو لم تتحكم المصالح الشخصية في عقل القيادة، ولَم يتحول الخلاف إلى سبب لموت آلاف الأبرياء.

الأدهى من ذلك، أن هذه الخلافات لم تكن بين قيادات بعيدة عن الواقع، بل بين من يحملون على أكتافهم ثقل الدفاع عن مدينة بأكملها. كل تأخير، كل نقاش بلا جدوى، كل محاولة لإثبات الذات على حساب الآخرين، كانت تُقابل بصرخة الأطفال الجائعة ودم النساء والرجال الذين فقدوا كل شيء.الدرس هنا صارخ وواضح: قيادات الكفاح، مهما علا شأنها، يجب أن تتحمل المسؤولية كاملة عن نتائج قراراتها، وعن كل يوم تأخير قتل فيه مدنيين أبرياء. أهل الفاشر لن ينسوا، ولن يغفروا، والدم الذي سُفك لن يُمحى.

في النهاية، من يختار الخلاف على الناس، ومن يسمح لمصالحه الشخصية أن تُسطر صفحات الموت، يكتب تاريخه بالعار. الفاشر اليوم، رغم كل الألم والدماء، تنتظر قادة حقيقيين، ليسوا متحاربين على الألقاب، بل صناع أمل ونصر .

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole