صورتان لفاطمة احمد إبراهيم واحدة حداثوية والاخرى تقليدية، ربما كان مصدر الأخيرة نشأتها والبيئة التي احاطت بها، وفي حكاويها عن حياتها وبداياتها الأولى في سنوات الشباب حينما اتجهت لخوض غمار الحياة الحزبية واتخذت مساراً ثورياً، حكت ان أباها طالبها وهو رجل متدين طالبها ان تلتزم بدينها وكان يتسأل حول اجتماعاتها بالرجال، وقتها كانت المدينة تحمل طيناً من الريف ولعلها لا تزال وتوصلت مع أباها إلى حل بان يصاحبها أخاها صلاح للاجتماعات وينتظرها حتى يعودا معاً، وهكذا تمكنت من شق طريقها الثوري بالمصالحة مع مطالب اسرتها وظلت كذلك عبر طريقها الطويل تعمل على المصالحة بين الجديد والقديم والحداثوي والتقليدي في صورة تحمل رسم الاثنين في انسجام وتوافق، وهو ما ميزها بين الكثيرات وعند الكثيرين. قضية الحداثوي والتقليدي والمحلي والعالمي وما هو اقرب لوجدان المجتمعات المحلية وبنية المجتمع القديم وماهو ضروري لقضية تحرير المرأة في قالب يحمل خصائص وصورة مجتمعنا وبشكل يعزز تحرير النساء من القهر، ورفض اي شكل من أشكال استغلال النساء، ويضيف لما هو عالمي من مكوننا المحلي قضية ذات بال ولا تزال مطروحة على أجندة الحركة النسائية، تجربة الاستاذة فاطمة أحمد ابراهيم تستحق الدراسة والتمحيص الموضوعي معاً وضد.
الحركة النسائية الثورية التقليدية محلياً وعالمياً اعتمدت مشروع التغيير المتكامل الذي يربط تحرير النساء بتحرير المجتمع مع عدم إغفال قضايا النساء في البرنامج الاني، اما أجندة الليبرالية النسوية الحديثة فهي تعتمد على نحو رئيسي عند المطالبة بحقوق النساء في التركيز على الحقوق والحريات الفردية وحرية الاختيار الشخصي وتعزيز دور النساء الاقتصادي في اطار اقتصاد السوق وأقرب تعريفاتها دون إخلال هي مسار نسوي حديث يعمل على نيل النساء حقوقهن في المساواة عبر التركيز على الخيارات الشخصية والتعليم والمهارات وتعزيز المشاركة والفرص في اطار اقتصاد السوق، واخذت قضايا الجنسانية والاستقلالية الجسدية والمثلية والجنس الثالث حيزاً واضحاً في برامجها. أجندة الحركة النسائية التقليدية وأجندة الليبرالية النسوية الجديدة يلتقيان ويفترقان في محطات عديدة والأخيرة أقل تركيزاً وتوقفاً من الحركات النسائية الثورية في قضايا المضمون الاجتماعي والحركة الاجتماعية السياسية الواسعة، والمنظمة التي تعتمدها الحركات النسائية الثورية التقليدية. فاطمة بلا مواربة انحازت لخيار الثورية التقليدية دون قطيعة بين ما هو اصلاحي وثوري واحدثت نقطة التقاء بينهم.
تعرفت على الأستاذة فاطمة حينما كنت في المرحلة الثانوية وامتدت علاقتي بها حتى لحظة مشاركتي في تشيع جثمانها في مطار هيثرو بلندن، كانت إمرأة ذات حس شعبي تستخدمه في عملها السياسي، في ذاكرتي حكاوي كثيرة عنها سأكتفي بسرد بعضها، بعد انتفاضة أبريل ١٩٨٥ كنا في ندوة في قاعة الصداقة ونجلس في مقاعد مجاورة لها وأُعطيت الفرصة حينما جاء وقت الاسئلة لصديقنا العزيز الشاعر الكبير السوداني والإريتري محمد مدني، وفي طريقه للمنبر قال للأستاذة فاطمة: سوف انتقد موقف حزبكم الحالي من القضية الإرترية، فقالت له ( يا ولدي خصمتك بالنبي ما تتحدث عن حزبنا) فذهب وانتقد موقفهم وحينما عاد وقد كان طويلاً ونحيفاً قالت له( انت يا الكملان من لحم الدنيا ما قلت ليك ما تتكلم عننا) وضحك الجميع.
ذات مرة أرسلت لي رسالة صغيرة في الثمانينات قبل سقوط نظام جعفر نميري بانها سوف تذهب إلى نادي الماليين بشارع الجامعة للحديث عن ذكرى الاستقلال، وطلبت بان نحضر هناك مع مجموعة لموافاتها، حينما ذهبنا كانت الندوة عن الحركة الوطنية ونضالها لاستقلال السودان، شاركت فيها فاطمة والمؤرخ الراحل الاستاذ التجاني عامر الذي تحدث عن الحركة الوطنية ضد الاستعمار ولم يتطرق لمساهمات اليسار وبعدها أعطيت الفرصة لفاطمة، فابتدأت حديثها قائلة ( في ذمتك يا التجاني عامر ما سمعت بالجبهة المعادية للاستعمار ولا قادتها؟ الم تسمع بلجنة شؤون العمال في عطبرة؟ ) ثم واصلت حديثها، وحينما انتهت طلب الأستاذ التجاني عامر الفرصة وقال موجهاً حديثه لها ( والله يا جماعة الاستاذة فاطمة دي حقانية وحديثها صحيح، والله ما في مظاهرة في الخرطوم طلعت ضد الانجليز إلا وكان على رأسها عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة وكان من واجبي ان اذكرهم) وكان الأستاذ عبد الرحمن الوسيلة هو السكرتير العام للجبهة المعادية انذاك.
في اجتماع التجمع الوطني الديمقراطي في اسمرا والذي خاطبته فاطمة حول قضايا تمثيل النساء بهيئة القيادة، وقد طلبت مني ترتيب اجتماع لها مع دكتور جون قرنق قبل الاجتماع الرسمي، وقد كان دكتور قرنق مؤيداً عظيماً لحقوق النساء وأطلق عليهن ( مهمشات المهمشين) وقد وجدت قضية تمثيل النساء في هيئة القيادة معارضة لاسباب وحجج مختلفة وقد أضر ذلك بالتجمع الوطني الديمقراطي، في الاجتماع وجهت حديثها للسيدين الميرغني والمهدي وجون قرن قائلة:( ان جلوس قرنق في المنضدة العليا تم بالنضال وان جون قرنق كان مواطناً من الدرجة الثانية) وتحدثت بعبارات حادة فضحك قرنق وغضب الاخرين وخاطبها الأمام الصادق المهدي قائلاً ( يا فاطمة جرح السيف ببرا لكن جرح اللسان ما ببرا) ورفعت بعدها الجلسة وتحدث الميرغني مع قرنق منفرداً في نقاش مطول، بعدها طلبني الدكتور قرنق وقال لي ان السيد الميرغني طلب منه راجياً ان لا يتدخل في الموضوع الذي أثارته فاطمة وان ذلك سيحدث مشكلة في قيادة التجمع، وقال لي قرنق انه إذا حضر الجلسة سيؤيد فاطمة، وفي الوقت ذاته لا يريد ان يحدث شرخ في قيادة التجمع وهناك قضايا مهمة في النضال ضد نظام الخرطوم، بعد حوار قال لي انه في بداية الجلسة سيستأذن للذهاب للحمام ولن يعود إلا بعد نهايتها وان اطلب منه المجئ بعد نهاية الموضوع المثار وهو ما حدث، عند عودتنا لفندق نيالا باسمرا وصلنا قبل فاطمة وكنا جالسين مع الراحل الأستاذ والمناضل الكبير التجاني الطيب بابكر، وعندما اقلبت فاطمة طلب منها التجاني الحديث فأجبت قائلة ( يا تجاني أنا ما كنت دايراك تتشفع لي يوم القيامة، كنت ديراك في الاجتماع ولم أجدكم ولا داعي للحديث) كانت فاطمة صارمة وقاطعة في قضايا النساء ولم تترك الأمر عند اجتماع اسمرا وعادت به مرة أخرى لاجتماع القاهرة وتحدثت أمام الصحفيين بان النساء غير ممثلات في قيادة هيئة التجمع وان دورهن هامشي.
حكم الانقاذ شهد أوسع الجرائم ممنهجة ضد النساء واستهداف وتدمير منظم للحركة النسائية السودانية ولم يتعرض قطاع اجتماعي للاذلال والمهانة في عهد الإنقاذ مثل النساء، وتعرضت المرأة الريفية وخصوصا في مناطق الحرب لجرائم كبري موثقة وكذلك في كل أنحاء السودان، وحرب ١٥ أبريل هي امتداد نوعي لفكر وجرائم الإنقاذ ضد النساء، والسياسات الاقتصادية للإنقاذ ادت لانهيار الريف وهو أوسع قطاع يضم المرأة في الزراعة والرعي، وعند انهياره انهار سقفه على رؤوس النساء وحرب ١٥ أبريل هي قراءة جديدة من كتاب الإنقاذ.
الجيل الجديد الذي يقود الحركة النسائية اليوم أمامه مهام كبرى تحتاج لتواصل تجارب الاجيال بين الأمس واليوم دون قطيعة، وهو يبني محطات جديدة في مسار الحركة النسائية السودانية وينفتح على العالم على نحو اوسع من الأمس وفي وقت تطرق أبوابه ثورة الاتصالات ورياح العولمة، مع ذلك هنالك خصوصيات تطور مجتمعنا فكيف يتم مصالحتها وكيف تؤخذ في الاعتبار دون مزايدة أو تبعية، وبمساهمة لبناء نهضة الحضارات الإنسانية وحتى تأخذ الحركة النسائية السودانية (صينيتها) في منضدة الموائد العالمية وخصوصاً وان للنساء السودانيات ارث تاريخي يمتد لآلاف السنين ولحضارات وادي النيل القديمة، وقد ساهمت النساء السودانيات في الحكم والسياسة والثقافة بقوة واقتدار.
فاطمة لم تكن لوحدها كانت معها رائدات الاتحاد النسائي وحركة المرأة الحديثة منذ ثورة ١٩٢٤ وهنالك كثر من قيادات الحركة النسائية اللاتي يجب ذكرهن ولكني خشيت ان اذكر بعض الاسماء وأغفل أخريات. فاطمة كانت من ضمن حركة نسائية واسعة وقد كان من حسن حظي ان تعرفت عليها عن قرب وعلى مساهماتها الرفيعة، وهذا المقال وفاءً لها ولآثرها العميق ووهجها الذي لم ينطفئ.
ثورة الاتصالات فرصة لنهوض الحركة النسائية وبناء عقلها الجمعي في ثورة للتغيير الاجتماعي وحتى تكتمل صورة الثورة السودانية بمساهماتهن الرفيعة، وبخطاب سياسي رصين وقاعدة اجتماعية متينة.
في الغرفة ٢٠٥ وفي المستشفى الأمريكي في باريس كان صلاح أحمد إبراهيم يمضي لحظاته الأخيرة كطائر مهاجر عظيم وطلب من دكتور ضياء يوسف جميل الذي يلازمه وربطته به صداقة وثيقه، ان يدعو اخوته للحضور مرتضى والتومة وفاطمة، ظن ضياء ان فاطمة هي الأقرب لباريس لانها في لندن، لكن صلاح طلب ان تأتي فاطمة في الاخير لانها لن تطيق فراقه ووداعه، كانت فاطمة حنينة ودمعتها اقرب لعينها من طرف ثوبها مع الأقربين والإبعدين، وقال صلاح لضياء : اود ان أوصيك على السودان وادرك ضياء انها وصايا الموتى ومتفادياً رد بانه لا يعرف السودان فقد جاء لباريس شاباً يافعاً ولكن صلاح رد بذكاء( انت يا ضياء من الشبارقة وانا أوصيك على السودان الذي به الشبارقة) وهاهو السودان اليوم على مفترق الطرق يحتاج وصايانا جميعاً.
غابت فاطمة عن السودان سنوات ليست بالقليلة لكنها لم تغب عن ذاكرة الناس الذين أحبتهم وأحبوها، وحينما عاد جثمانها إلى النيل مرة ونفضت عن أثوابها غبار الحياة وتعب الرحيل سرعان ما كانت جنازتها على موعد مع الناس في بلادها ولم يتأخروا والناس ليسوا بغافلين عن من أعطى ومن يستحق.
حينما صور أحدهم بيتها في العباسية بعد حرب أبريل اللعينة، كان في بيتها أكداس من الكتب وهو نفس البيت القديم، كانت فاطمة أحمد إبراهيم إمرأة ذات ملامح من غابة الأبنوس وغضبة الهباباي أمضت حياتها وهي تدفع بالوعي والاستنارة من أجل حقوق النساء.
سلام على فاطمة السمحة وسلام على جيلها ورفيقاتها وسلام على بلادها التي تستحق السلام.
وسلام على جميع نساء السودان.
١٥ نوفمبر ٢٠٢٥



