*دولة 56 في عيدها التاسع والستين: لا تهدم ما لم تعرف لم كان فينا أول مرة (2-2) عبد الله علي إبراهيم*

(فكتب أمين التوم الوزير القيادي بحزب الأمة عن أيامهم في مؤتمر الخريجين يذرعون الريف للدعوة لـ”يوم التعليم” الذي بادر به مؤتمر الخريجين. وقال إنه كان ضمن وفد من 30 شاباً بقيادة أحمد خير لافتتاح مدرسة أهلية من عمل المؤتمر بقرية الكنوز بالنيل الأبيض. وتوقفوا عند بلدة القطينة التي اجتمعت عن بكرة أبيها: “وقبل أن ننزل من العربات أنشدنا نشيد المؤتمر (فليعش مؤتمري رمز مجد الوطن) وكانت دهشتنا حين رأينا الناس يبكون بدموع غزيرة وهم يستمعون إلى نشيدنا).

لو كانت خيباتنا بعد الاستقلال فاجعة في حد ذاتها لما كان في البطن مغصة. لكن الأكثر إمغاصاً أن يكسب الاستعمار منها كسباً جعله نظاماً مثالياً في عين صفوة كثيرة. ولو لم تنقطع هذه الصفوة عن سيرة الجيل الوطني بقرار من جهة واحدة لربما بطل عندها تجيير هذه الخيبة لمصلحة الاستعمار. فرأى الجيل الوطني موضوعنا هنا من لؤم المستعمرين ما احتشد في كتاب “موت دنيا” لرئيس الوزراء السابق محمد أحمد محجوب والدكتور عبدالحليم محمد. فكانا التحقا بكلية غردون في ما بعد ثورة 1924 التي رأى الإنجليز منها كيف أن الصفوة التي رعوها في الكلية قد عضت يدهم المحسنة. فأساءوا إليه بغضبة استعمارية للتعليم والمتعلم حتى سمى محجوب وحليم جيلهم بـ”جيل السنوات العجاف”. وكانت من ضمن العقوبات التي وقعت عليهم حرمانهم من قراءة الصحف المصرية لأن الإنجليز اتهموا مصر، بحركتها الوطنية المصادمة للإنجليز، بأنها من وراء الثورة.
كانت صحف القاهرة، “البلاغ” الوفدية ومن لوامع كتابها العقاد، و”السياسة الأسبوعية” للأحرار الدستوريين ويحررها محمد حسين هيكل، تأتي الخرطوم بالقاطرة على مرتين في الأسبوع. وكان محرماً على طلاب كلية غردون الاطلاع عليها. وكانوا يفعلون ذلك سراً. بل إن طالب القضاء الشرعي، علي كباشي، من بلدة الرهد بكردفان، زاد بأن نشر قصيدة في “البلاغ” في 1928. فلاحقته السلطات. فاتصل مكتب السودان في مصر باستخبارات السودان ينقل الخبر قبل وصول القطار الذي سيأتي بالصحيفة. وأطلعت الاستخبارات مستر يودال، مدير الكلية، بالواقعة. وجاءت “البلاغ” في الغد تحمل، في قول حسن نجيلة في كتابه المأثرة “ملامح من المجتمع السوداني” (1963)، جسم الجريمة: القصيدة. فبعث يودال رسولاً يستدعي كباشي في حين كانت الحكومة تلومه على تفريطه حتى تمرد ذلك الطالب عليه.
وجاء كباشي في صحبة صول الكلية، فضل المولى، الذي صب سوطه العذاب على أجساد طلاب غيره. فوبخ يودل كباشي وقرر فصله وترحيله بالقطار إلى أهله في كردفان في اليوم نفسه. وحتى حلول القطار حبسوه في غرفة عليا من مباني الكلية. ولم يكن بوسع زملائه فعل شيء مناصرة له سوى التجمع عند أسفل الغرفة وإدامة النظر فيها. وجاء يودال غاضباً يشتم ثلة من الطلاب كانوا غادروا الكلية سراً إلى مصر. وقال إنهم ناكرو جميل عضوا على الأيدي التي أكرمتهم. وذكرهم بأفضال الإنجليز عليهم وعن خيانة كباشي لهم. وما إن وصل القطار بكباشي مدينة الأبيض حتى أخذوه مخفوراً بتعليمات لمفتش المركز لمحاكمته. فحكم عليه بالسجن ستة أشهر سجناً بالدرجة الثالثة. وقضى المدة. وخرج محارباً في رزقه.
ولما تقطعت الأسباب بين الخلف والجيل الوطني تعذر على دعاة التغيير الاجتماعي والفكري منهم نسبة أنفسهم إلى إشراقاته لا في الصراع السياسي ضد الاستعمار، بل في الصراع المجتمعي بين السودانيين أنفسهم. فكان الناقد الأمين على مدني من أوائل من خرج، تحت تأثير مدرسة الديوان في مصر، ناقداً الشعر العربي التقليدي الذي كان زينة زمنه وكان أميره الشاعر محمد عمر البنا.
تخرج الأمين مدرساً من مدرسة العرفاء بكلية غردون في 1920. كان وسيماً، أنيق الهندام، ربع القامة، عذب الحديث مدمناً لقراءة الأدب العربي. وتأثر منه بأدب المهجر وبجبران خليل جبران خاصة. فنزع إلى نقد التقليد في الشعر. وكان أول من حاضر عن زيفه وصدئه في زمنه. وتأثراً بالعقاد والمازني وشكري ممن كان أحمد شوقي في مرمى نقدهم كان الشاعر البنا صيد الأمين. فانفتحت ثورة عليه في صحيفة “الحضارة”. فصاح شيخ في وجهه وهو يحاضر: أنت شاب مجنون. فكتب الأمين خاطرة في ما بعد: “أنا شاعر مجنون. أنا الشاعر المجنون وهم الشعراء العقلاء أنا شاعر بلا قيد أو شرط”. واتصل الجدل بين الأمين والمعلم عبدالرحمن علي طه، الذي صار مديراً لمعهد بخت الرضا التربوي لاحقاً، على صفحات “الحضارة” وطال وتشعب حتى أوقف حسين شريف المحرر الجدل، لكنها معركة مجنونة للتجديد تركت دوياً.
وعوجل الأمين في ريعانه في 1926. وانعقد له حفل تأبين في نادي الخريجين، غنى في تقليد سوداني استحق النظر، محمد أحمد سرور، عميد الغناء في يومه، والأمين برهان أغنية للشاعر العبادي للمرة الأولى:
بيع خزفك درر اتغيب النقاد (تساوى الخزف والدرر بعد موت صاحب الدرر)
مات الكان بيهدد طه (حسين) والعقاد
وين متل الأمين ليهو البيان ينقاد
ولعل الأكثر لؤماً في قطيعة الخلف مع الجيل الوطني أنه كمن يلغي جيشانه بالوطن الحر، وأشواقه ليخلص سيداً خليقاً بهم بجرة قلم، بل جنونه في تيهاء عشقه. كان الوطن للجيل الوطني استثماراً عاطفياً فوق أنه استثمار سياسي. كانت العين منهم تترقرق بالدمع عند كل منعطف ظفر لهم بزمام إرادتهم. فكتب أمين التوم الوزير القيادي بحزب الأمة عن أيامهم في مؤتمر الخريجين يذرعون الريف للدعوة لـ”يوم التعليم” الذي بادر به المؤتمر. وقال إنه كان ضمن وفد من 30 شاباً بقيادة أحمد خير لافتتاح مدرسة أهلية من عمل المؤتمر بقرية الكنوز بالنيل الأبيض. وتوقفوا عند بلدة القطينة التي اجتمعت عن بكرة أبيها: “وقبل أن ننزل من العربات أنشدنا نشيد المؤتمر (فليعش مؤتمري رمز مجد الوطن) وكانت دهشتنا حين رأينا الناس يبكون بدموع غزيرة وهم يستمعون إلى نشيدنا”.
ولما جاء الاستقلال عاد أمين إلى ميثاق الدموع. فقال إنه لم يوفق في توفير دعوة لأبيه لحضور مراسيم رفع العلم السوداني. فامتنع أن يذهب من دونه. وبدلاً من ذلك أخذ المرحوم والده وأولاده بالعربة لشارع القصر الحالي، وتوقف أمام شركة مركنتايل حيث ساريات القصر مرئيات لهم. وقال “ثم شهدنا وما أعظم ما شهدنا. رأينا علم السودان بألوانه الثلاثة يرتفع خفاقاً في الفضاء. وبكي والدي وبكيت كثيراً ونحن نشاهد هذا المنظر المهيب. وكانت دموع فرحنا غزيرة مسرفة في غزارتها. وبكى ولدانا وهما يشهدان معنا في تلك اللحظة الخالدة صفحة من تاريخ الاستعمار تطوى وصفحة الاستقلال تفتح من جديد”.
السودان في أمر ضيق من أمره وجفاؤنا حيال الجيل الوطني في ما رأينا حائل دون لم شعثنا. سئل كن بيرنز، الذي أنتج فيلم “الثورة الأميركية” أخيراً بعد نحو عقد من العمل عليه، عما حدا به للاهتمام بتلك الثورة. فقال إنهم في براثن انقسام عصيب في أميركا. ولرأب الصدع صح أن نتعامل مع بلدنا كما يتعامل المتخصص النفسي أو القسيس مع إنسان مأزوم. فيسأله عن متى ولد، ومن والديه، وكيف كانت طفولته إلخ. ويعيد الرجل سيرته الأولى من فوق تلك المعارف عنه. وقال إن ما أراده من الفيلم هو أن تعرف الأمة متى ولدت، ومن أي والدين، وما سرديتها لتتلمس طريقها للشفاء.
ودولة 56 هي سردية المنشأ لدولة السودان المستقل المعزز بالإرادة الوطنية، أو أسطورته لو شئت. وبداية الشفاء مما نحن فيه من شقاق أن نعلم من أين جاءت هذه الدولة لا أن نشغب في وجهها ونحتج على مجيئها نفسه. ولمن أراد تقويضها صح نصه بقول أحدهم إنه إذا أردت هدم شيء فاعرف لماذا كان فينا أول مرة.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole