أحزنني أكثر من موت جماعة من أهل الإحسان عندنا بؤس نعيهم. فالطبقة الوسطى المدينية عندنا خالية الوفاض من فن النعي لأنها طبقة بينها وبين الثقافة طلاق مؤكد. النعي ثقافة. فانظر إلى فن المناحة الذي شيع “دراويش” السودان من العباد الزهاد و”فرسانهم” من أمثال الموسيَين: ودجلي وأبو حجل. وهو ثقافة كبرى عند الأمريكيين. وقد استعجبت لما علمت أن صحافتهم تعد نعي وجوه القوم من العُمار وأهل الفكر والسياسة والفن والرياضة وغيرهم قبل وفاتهم. ويتولى ذلك صحفي مطّلع على عمل الرجل أو المرأة ليعين القارئ على الوقوف على صالح من نعاه ومنزلته في مهنته. وتحتفظ الجريدة بالمرثية لتنشرها يوم يرحل الواحد منهم إلى دار البقاء.
كان النعي في صورة المناحة ثقافة للزعامة السودانية التقليدية. ويريد له أهله كثقافة أن يبلغ من الإحسان مرتبة عليا. وقد سبق أن استعنت بالحكاية المشهورة عن الرجل وبناته لأضرب مثلاً على تفريط الطبقة الوسطي السودانية في فن النعي. فقد دنا الرجل ذو الصيت والمأثرة من الموت. وخالطه شك أنه ربما مات ولم يحسن أهله نعيه. فنادى بناته وقال لهن أريد أن أسمع منكن مناحتي وأنا في هذه الدنيا قبل الممات، ففعلن. وطرب لها ثم مات.
لقصة الرجل وبناته مشابه لمرثاتي التالية للمرحوم عوض الله دبورة، زعيم الصحافة والكتاب والبر والأنس في مدينة عطبرة. فقد قرأها المرحوم حياً قبل الممات مكرهاً لا بطلاً لخفّة مني. فقد قرأت قبل أعوام في جريدة “الرأي العام” عن وفاة زوجه. ولم أتبين الأمر ولم استأن. فحزنت وسودت عموداً بالصحافة أبكي فقده. واضطررت إلى الاعتذار بعد تنبيهي إلى هوية الفقيد. وخجلت. وقصدت في زيارتي لعطبرة قبل عامين أن أغشى مكتبته. فما أن رآني حتى هش لي وقال مداعباً: “جيت للفاتحة”. وضحكنا. وأزال عني الحرج. ثم زرته في العام الماضي أيضاً وتذاكرنا النعي.
ظللت أعزي نفسي عن هذه الخفة في شأن عصيب كالموت بقولة صديق حدثته بخيبتي فقال: “لا تحزن. لربما أراد الله من هذه الخفة أن يعرف عوض الله حياً قبل الممات معزتك له وعرفان مدينته له”. صبراً آل دبورة وعموم الفلاليت والسيالة والمقرن والداخلة، عزاء صديقي أمين. والحمد لله. فإلى النعي القديم الجديد.
أعرف متي تعلق قلبي بطفلة عربية هي الكتاب العربي. كان ذلك في مدينة أبو حمد التي اختلفت إلى مدرستها الأولية حين جئت إليها مع أبي ناظر محطتها بين 1949 إلى 1951 تقريباً. كانت مجلة “الصبيان” تصلنا عن طريق المدرسة وكذلك كتب مكتب النشر بما في ذلك كتب مادة اسمها الموضوعات. ومن شغفي بهذه الطفلة العربية لم أتردد من أن أطلب من المدرس البعبع تسليفي بعضها لأقرأه في البيت. وفعل. ولا زلت أذكر أنني كنت أقرأ “الصبيان” للأسرة. وكانت أمي، رحمها الله، تحفظ شيئاً من عمك تنقو: “أنا حكيم أداوي الناس من الحمّى ووجع الرأس”. وشدني كتاب اسمه “بنزين ومريسة” ربما قرأته عن سائق لوري ثمل يردد “ليالي حبي الكانت نعيم غناها قلبي وأنا في الدويم” ظل صداها في نفسي حتى أنني سعدت جداً حين عاد الناس لترديدها منذ سنوات. وأذكر أّيضاً رسّاماً حاذقاً في “الصبيان” رسم صورة لجمال الفتاة السودانية كما أشادت به الأغاني من مثل “الرقيبة قزازة عصير والعيون شبه الفناجيل”. وانتهي إلى صورة غاية في القباحة للفتاة الجميلة في مفهومنا. وهذا مما نسميه الآن القراءة المخرّبة للنص التي تزلزل صنميته.
لما عدت إلى عطبرة قبلوني بمدرستها الجنوبية لإكمال السنة الرابعة. وكنت أسكن حلة المحطة والأقرب إليها هي المدرسة الشرقية التي كانت تامة العدد. وساقني هذا المشوار الطويل إلى الجنوبية إلى مكتبة دبورة التي كانت على طرف السوق الشرقي. أمر عليها مع الصديق محمد أحمد الخضر (قلوبة)، وأجتاز نادي الشبيبة، ثم طاحونة سويرس الصامتة، فنقطة البوليس إلى المدرسة. ورتبت شراء “الصبيان” وكتب مكتب النشر منها. ثم كبرت شيئاً وولعت بمجلة “أهل الفن” أتبادلها مع “الكواكب” التي كان يشتريها الأخ عبدا لقادر مختار. وكانت مكتبة دبورة طوع البنان تستجيب لمقتضي العمر والشغف. وكنت أقف مأخوذاً بتلك الطيور العربية بأجنحة أغلفتها الملونة من وراء زجاج العرض. وأذكر من بينها ما يزال “فارس الأمل” بأجزائه لجورج أمادو ثم “ماذا خسر العالم بتأخر المسلمين” وربما “الماركسية وعلم اللغة” الذي ترجمه أستاذنا لاحقاً عبد الخالق محجوب عن ستالين. كان للكتب ملمس عذري من على البعد. كانت فاضحة الإغواء. ونفخت سحر مزمارها الدبوري وأخذتني مني إلى يومنا.
ولم تكن طيور الكتب دبورة وحدها التي اخذت بلب الطفل والصبي. بل كنت مأخوذاً بدقة نظام المكتبة. فقد كانت للمكتبة عجلة دبل مثل عجلات الفرانة تلاقي إكسبريس حلفا صباحاً وإكسبريس الخرطوم ظهراً. وكانت المجلات المصرية تأتينا في عطبرة أولاً ثم تروح للخرطوم. فإذا وصلت المجلات بالعجلة إلى المكتبة تلقاها قريب ماهر لدبورة ضاع على اسمه (هل هو محي الدين يا ربي). وكانت له كروت جيدة الصنع غبشاء اللون محفوظة في صندوق كرتوني بلا سقف لونه ظهري فاتح فيما أعتقد. وعلى كل كرت اسم المشترك ومطلوباته. وينظر الشاب الماهر للكرت، ثم يطوي مطلوبات المشترك في حزمة عليها اسمه، ثم ينتقل إلى اسم آخر. وما فرغ من هذا العمل الدقيق حتى نادي ابن دبورة، وكان مبغبغاً نوعاً ما، وأعطاه الحزم ليأخذها إلى المشتركين في مكاتب السكة حديد وغيرها. ويفعل نفس الشيء بصحف الخرطوم التي تأتي مساءً. وغالباً ما يمر عليه المشتركون لأخذها. وكانت نظم سقيا المدينة بعصير الذهن هذا متعة أخرى صامتة أعود بها من مكتبة دبورة.
كان عوض الله دبورة نفسه غائباً عن هذه العمليات حاضراً في مكتبه في الطرف البعيد من المكتبة بين زواره ومؤانسيه. يجيب بالصوت العالي متي ما احتاج له قريبه البصير. وكان دبورة الذي يروي ظمأ هذه المدينة الشيوعية اتحادياً على السكين. وقد عجبت له كيف لم تغشاه الغاشية اليسارية. وبدا لي أنه نتاج عطبرة أخرى طوى اليسار تاريخها في جناحه وطار. فدبورة هو نتاج فترة مؤتمر الخريجين التي لمع فيها رموز الاتحاديين من أمثال المراحيم علي نور وعبد الإله أبو سن والأستاذ أبو شرف من موظفي السكة حديد والمعارف والمديرية بمدينة الدامر عاصمة المديرية. وقد وطدوا الصلة بطلائع العمال مثل سليمان موسي وغيرهم. وكان الشاعر العامل حسن مدثر قد كلمني عن تلمذتهم على المرحوم العالم السراج في ندوته في عطبرة. كما ظهرت المواهب المسرحية للطيب حسن وغيره في الحركة العمالية. وهي فترة غير مذكورة في تاريخ المدينة المشهور وضاعت في نزاع الاتحاديين والشيوعيين على النفوذ في المدينة. وربما صح أن نستعيد هذا التاريخ لصالح اليسارية نفسها. فواضح أن اليساريين جاؤوا إلى مدينة كانت قد أخذت حظاً من الثقافة بفضل حركة الخريجين. وبقي منها أثر وهو دبورة بمكتبته التي كان أعظم مستهلكي مادتها هم الشيوعيون.
كان في نيتي أن أتحدث إلى دبورة في هذا الأمر حين غشيته عام 2002 خلال زيارة قصيرة إلى المدينة. ولم يحدث ذلك. وواخسارة. وحدثني عبود عثمان نصر، ابن خالتي، أنه استنطقه بعض التاريخ على تلفزيون عطبرة. وددت لو حرره ونشره. فدبورة شاهد صدق… من عطبرة. باع بعضهم حتى ذممهم ولم يبع دبورة غير الكتاب طوال نصف قرن وأكثر. ولم ينقل للعالمين سوى أخبار مدينة مجيدة:
بَكتك سطور الكتاب
نعاك الخبر




