في بلادٍ تجلد فيها الصحافة لأنها تتجرأ وتسأل، ويعتقل فيها ويحاكم من يجأر برأي، بينما يعاد فيها الفاسدون إلى مواقعهم الحساسة بابتسامة عريضة، يصبح السؤال الحقيقي ليس من يحكم السودان بل من الذي يجرؤ على الإدعاء بأن شيئاً قد تغير، فها نحن أمام واحدة من أكثر الوقائع فجاجة ووقاحة، إعادة أحد الضباط النظاميين المفصولين إلى الخدمة في هيئة معنية بضبط وحماية الاقتصاد، نعم أعيد إلى قلب المنظومة نفسها التي فُصل منها بسبب فضائح مالية، شيكات مرتدة، وشبهات فساد موثقة. فأي حكومة عاقلة تفعل ذلك، الإجابة بسيطة هي الحكومة التي لا تخجل. والرجل ليس مجرد ضابط نظامي عادي. وانما هو الأكثر ارتباطاً بالإسلاميين، ومن المقربين لصلاح قوش مدير جهاز الأمن الأسبق، ومن الذين إشتهروا بتلفيق الملفات وتنفيذ الأجندات المظلمة. وحين خرج من الخدمة، لم يخرج بسبب موقف شجاع أو اختلاف سياسي بل خرج مطروداً بسبب الفساد. ومع ذلك يعود. ليس إلى وظيفة هامشية، بل إلى وحدة صادر إقتصادية غاية في الأهمية والحساسية ومسؤولة عن سلعة تعتبر شريان المال والصادر الوطني، هذه ليست مفارقة هذا تحدٍ سافر للرأي العام. فقد ظل السيد رئيس مجلس السيادة يخرج للناس ليكرر مرة بعد مرة أن المؤسسة العسكرية لا علاقة لها بالإسلاميين. لكن بربكم ماذا نسمي إعادة الضباط الإسلاميين واحداً تلو الآخر، ماذا نسمي إعادة من وصفوا بأنهم أدوات قوش إلى مواقع النفوذ، ماذا نسمي التناقض بين خطاب ينفي، وقرارات تثبت العكس، المشهد لا يتعلق بشخص واحد. إنه جزء من مشروع كامل لإعادة تدوير أدوات النظام السابق.. نفس الوجوه.. نفس العقلية.. نفس الشبكات.. نفس مفاصل الإقتصاد التي نهبت البلاد..كأنما اُشعلت الحرب لهذا الغرض خصيصاً، فما الرسالة التي يريدون إيصالها.. الرسالة واضحة، ولا تحتاج لخبير تحليل سياسي، (الثورة إنتهت… والبلد رجعت لمالكيها الحقيقيين الكيزان)، ومن لم يفهم بعد، فالمشكلة ليست في فهمه، بل في حسن نيته. فحين يُعاد الفاسد إلى قلب المال العام، فهذا يعني أن الحكومة لا تريد مكافحة الفساد بل تريد ضمان استمراره. إن إعادة هذا الضابط ليست خطوة إدارية، بل إعلان سياسي عدائي موجّه للشعب، من يعترض فليصرخ في الهواء. ومن ينتقد فلتنتظره محكمة. أما من سرق فمرحباً به في أرفع المؤسسات. إنها حكومة تقول بوضوح، من يحاسبنا من يقدر علينا، لكن التاريخ علّمنا شيئاً واحداً، أن أسوأ اللحظات التي تمر بها الشعوب ليست لحظات الظلم بل لحظات استخفاف السلطة بالشعوب وعندما تصل الأنظمة إلى هذه المرحلة، فهي غالباً تقف على أول درجات نهايتها..
إذا كنت اعزك الله تظن أن السودان اليوم دولة، فأعد التفكير. فالدولة حتى في تعريفها البدائي لا تعيد شخصاً خرج بسبب فساد موثّق، شيكات مرتدة، واستغلال نفوذ إلى منصب يتحكم في صادر عزيز ونفيس، إلا إذا كانت هذه الدولة عبارة عن نادي خاص للفاسدين، يديره أشخاص لا يشعرون بالحرج مطلقاً. فأن يُعاد رجل أُخرج من الخدمة بفضائح مالية، فهذا استخفاف بالشعب وكأنه يعاني من فقدان ذاكرة جماعي، وكأن الفساد ليس جريمة بل خبرة عملية تمنح صاحبها الأولوية الوظيفية. بينما اذا انتقدت الحكومة تُحاكم.. فضحت الفساد تُلاحق.. سرقت تعود إلى الخدمة.. زوّرت ملفات تُكرّم بختم صقر الجديان.. تنفذ أجندة الإسلاميين تضمن لنفسك وظيفة ذهبية… حرفياً في الذهب.. ما هذا.. هذا ليس فساداً.. هذا تحالف رسمي بين الحكومة والكيزان والجرائم الاقتصادية. وهذا والله إعلان صريح بأن السلطة تعتبر الناس سذجاً، وأنها لا تُبالي بالسمعة، ولا بالفساد، ولا بالقانون، ولا حتى بالحد الأدنى من احترام العقول. لقد وصلت السلطة إلى مرحلة (نعمل الدايرنو… والما عاجبو يشرب من البحر.).. لكن التاريخ يعلمنا أن الأنظمة التي تستخف بشعوبها بهذا الشكل لا تسقط لأنها فقط ضعيفة، بل لأنها ايضا تتمادى في الغباء..
إن مثل هذا الضابط النظامي الذي يضلع في جرائم هو مكلف بدرئها ومنعها لا ارتكابها، يقول عنه مثل سائر (حاميها حراميها)، وهو مثل يطلقه الجمهور للسخرية من المسؤولين عديمي الضمير والاخلاق والأنظمة القائمة على الرشوة والاختلاس والسرقة، ومن الصدف الغريبة أن منشأ هذا المثل القديم يعود لجريمة نهب ارتكبها شرطي وفقاً لاحدى الروايات، وتقول تلك الرواية إن اثنين من الأتراك جاءا في العهد العثماني لزيارة قبر الإمام عبد القادر الكيلاني في وسط بغداد. خرجا من إسطنبول واجتازا بلاد الأناضول، وعبرا جبال طوروس سالمين آمنين، وباتا في مدينة الموصل بخير وبركة، ثم تركا المدينة، وانحدرا جنوبا. وحيثما حلا ونزلا لقيا من السكان ما يستحقان من الضيافة والإرشاد والطيبة، حتى إذا وصلا إلى منطقة العوجة المجاورة لمدينة تكريت خرج عليهما أهل القرية، ونهبوا كل ما كانا يحملان، غير أن هذين المسافرين التركيين طاردا واحدا منهم كان قد سرق كيس نقودهما. استطاعا بمساعدة أحد الجندرمة المحليين القبض عليه. واقتاده هذا الشرطي إلى السجن بعد أن ضربه ضربا مبرحا. ثم سار به إلى المستنطق، حاكم التحقيق، كما يقال الآن. رق قلب المستنطق لما شاهده من مصير هذين الزائرين المسلمين، ففكر في استرجاع شيء من مسروقاتهما، وإعادتها إليهما. فاختلى المستنطق باللص قاطع الطريق، وكلمه بلطف عارضا عليه إطلاق سراحه فورا حالما يعيد كيس الليرات الذهبية إلى الزائرين المسافرين. فأجابه اللص النهاب قائلاً يا حضرة القاضي، والله العظيم لو كانت الليرات عندي لأرجعتها لصاحبيها مثل ما تأمر لكن الشرطي من قرية العوجة أخذها مني، فهز المستنطق رأسه، وقال (يعني صحيح حاميها حراميها). وسمع الناس بالحكاية وكلمات المستنطق، فشاع القول البليغ بينهم إلى يومنا هذا في العراق وفي السودان وغيرهما من بلاد الله، ويشار الى أن قرية العوجة المجاورة لمدينة تكريت، هي القرية التي انحدر منها صدام حسين وزمرته، وفيها قبره الآن..



