في مقاله بصحيفة «وول ستريت جورنال»، أشهر عبد الفتاح البرهان واحدة من أكثر أوراقه حساسية: ورقة التطبيع مع إسرائيل. قال الرجل بوضوح: «في ظل قيادتي، اتخذ السودان خطوة تاريخية عام 2021 بانضمامه إلى اتفاقيات أبراهام. نحن نؤمن أن السلام والتعاون هما الطريق الوحيد لاستقرار الشرق الأوسط والقرن الإفريقي».
قد يبدو هذا التصريح امتداداً لمواقف سابقة، لكنه في الحقيقة يحمل حسابات سياسية دقيقة، إذ يأتي في لحظة يسعى فيها البرهان إلى إعادة تقديم نفسه للغرب بوصفه الشريك الممكن، أو الحلقة «الأكثر قابلية للتعاون»، في مشهد سوداني شديد التعقيد.
المفارقة أن هذا الخطاب يتعارض تماماً مع المزاج الأيديولوجي لحلفائه الإسلاميين. فالتنظيم الذي ظل لعقود يرفع شعار «القضية المركزية» ويقدّم رفض التطبيع كأحد أعمدة شرعيته، وجد نفسه اليوم يتعامل مع الورقة الإسرائيلية بمنطق مختلف تماماً.
ليس لأن قناعاته تغيّرت، بل لأن السلطة – وليس المبادئ – هي المرتكز الحقيقي الذي يحدد موقف «البرهوكيزان». فقد غضّوا الطرف عن تصريح البرهان، بل إن بعض رموزهم أعاد نشر المقال على صفحاتهم على «فيسبوك»، في انعطافة تكشف عن أن البوصلة الحقيقية ليست «القدس» ولا «القضية»، بل كرسي الحكم.
وليست هذه أول مرة يحدث فيها ذلك، فعندما ذهب البرهان إلى عنتيبي لمقابلة بنيامين نتنياهو أثناء الشراكة مع «قوى الحرية والتغيير»، ثارت ثائرتهم لأيام… ثم خمدت. أما اليوم، فحين يأتي التطبيع في سياق تكتيك سلطوي يفتح لهم نافذة للعودة، يصبح الصمت واجباً، بل مستحباً.
التنظيم الإسلامي في السودان، منذ تأسيسه على يد حسن الترابي، بُني على رافعات سلطة خارجية وداخلية أبقته في الواجهة لعقود. أولى هذه الرافعات كانت «البنوك الإسلامية»، التي شكّلت منصة مالية مكّنته من صناعة طبقة اجتماعية موالية ضمّت جزءاً من التجار وبعض عناصر الإدارة الأهلية. ومن هناك بدأ التحالف التاريخي مع العسكر: من جعفر نميري، مروراً بسنوات الإنقاذ تحت عمر البشير.
لذلك، السلطة بالنسبة لهم ليست خياراً سياسياً، بل رئة تنفس. وحين فقدوها في 2018 أصيب التنظيم بارتباك وجودي، هربت قياداته إلى الخارج، وانقسم من بقي بين البرهان وحميدتي في محاولة للتموضع داخل أي مركز قوة متاح.
ويدعم الإسلاميون البرهان اليوم، لأنهم يرون في سلطة البرهان في بورتسودان بوابة محتملة للعودة إلى المشهد، ولو عبر ضيق الثغرات.
ولذلك يتمسّكون به مهما تغيّرت خطاباته أو تحالفاته، حتى لو وصل الأمر إلى استقبال نتنياهو نفسه في بورتسودان. ف«البراغماتية» التي يتحدثون عنها لم تعد سوى غطاءاً تكتيكياً لإعادة إنتاج نفوذ فقدوه، وليس مشروعاً سياسياً ذا مبادئ.
خلاصة المشهد أن البرهان يستخدم ورقة التطبيع كإشارة طمأنة للغرب في لحظة يسعى فيها لإعادة تثبيت شرعيته. والإسلاميون يباركون الخطوة ضمناً، لأن مصلحتهم في السلطة تتقدم على خطابهم العقائدي، فالتنظيم الذي عاش على التحالفات الخارجية، والتمكين الاقتصادي، ودعم الجنرالات، يدرك أنه بلا سلطة يفقد كل روافعه الاجتماعية والتنظيمية. لذلك أصبحت بورتسودان، بتوازناتها الهشّة، هي الحبل الأخير الذي يتمسّك به «البرهوكيزان» للعودة إلى الساحة.




