الهمجيّة من زوايا أخرى: إبادةُ غزّة أنموذجاً * د. رفيف رضا صيداوي

 

بعنوان “هل نقترب من مُجتمعٍ ديستوبيّ؟” (مقالة لنا نُشرت في ملحق “أفق” العدد144 – أيلول/ سبتمبر 2023)، وقَبل الاجتياح الإسرائيليّ لقطاع غزّة، ذَكرنا أنّ وقائع عدّة باتت تشير راهناً إلى أنّ حضارتنا باتت على مرمى قوسَيْن من إدراكِ حال الهمجيّة، في ظلّ الاجتياح الهائل للثورة التكنولوجيّة وإيديولوجيّتها المُسيطرة على المعمورة بأسرها، وما يُرافق ذلك من ازدواجيّةٍ في المعايير، ومن انزياحاتٍ عن الحقّ نحو اللّاعدالة، وعن الحريّة نحو القمع، وعن الديمقراطيّة نحو ديكتاتوريّةٍ تستقوي بامتلاكها زمام هذه الثورة. وفي هذه المقالة نُقارِب هذه الهمجيّة من زاوية أخرى، حتَّمتها عمليّات الإبادة الإسرائيليّة للفلسطينيّين في قطاع غزّة.

لن تكون البداية حول حرب الإبادة التي يُمارسها الغرب بقيادة الولايات المتّحدة وإسرائيل على أهل غزّة، بل بما ترمز إليه هذه الإبادة أو حرب التطهير العنصريّة هذه من فضْحٍ لكلّ مقولات الغرب حول حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، والحريّة، والديمقراطيّة، والسلام… وإلى ما هنالك من مقولات تبنّاها شعاراتيّاً، ولا يزال يُمارِس التضليل الإعلاميّ تحت عناوينها؛ البداية ستكون من إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو”: “نحن لا نخوض حربنا فقط، بل نخوض حرب جميع الدول المتحضّرة”؛ أي من إعلانه حرباً بين الحضارة (حضارة الغرب وإسرائيل) والتوحُّش(أي الفلسطينيّين والعرب)، ومن تبرير وزير الدّفاع الإسرائيليّ “يوآف غالانت” المبنيّ على ضرورة إبادة سكّان القطاع لكونهم “حيوانات على شكل بشر”.

إنّها حربُ إبادة تحت راية التحضُّر، وحفْظ السلام، وغيرها من العناوين التي لطالما انتقدها كِبار فلاسفة الغرب المتنوّرين، وحاولوا تعريتها بسبب ما جرّته، ولا تزال، على العالَم من ويلات، ولاسيّما مع بلوغ الرأسماليّة المتوحّشة أعلى مراتب التوحُّش، على المستويات السياسيّة والجيوستراتيجيّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة والثقافيّة، وحتّى القيميّة وغيرها، ودائماً في إطار المركزيّة الغربيّة التي تحمل راية الانتقال بالآخر (المتوحّش والبربريّ) إلى مصافّ التحضُّر.

لكن في المقلب الآخر، لطالما كان كِبار المفكّرين والفلاسفة والمثقّفين الغربيّين هؤلاء، فضلاً عن عددٍ من التيّارات والمدارس الفكريّة والنقديّة، يفضحون “التحضُّر الزائف” للغرب؛ ومن تلك الرموز، نذكر، مثالاً لا حصراً، “مدرسة فرانكفورت” التي تأسّست ما بين الحربَيْن العالميّتَيْن تحت وطأة المُشكلات السياسيّة والاجتماعيّة للقرن العشرين وحروبه التي اضْطلع بها الغرب الرأسماليّ، والتي كان من أبرز رموزها: ماكس هوركهايمر Max Horkheimer (1895 – 1973)، وتيودر أدورنو Theodor W. Adorno (1903 – 1969)، وهربرت ماركوز Herbert Marcuse (1898 – 1979)، ويورغن هابرماس Jürgen Habermas (1929 -) وأكسل هونيت Axel Honneth (1949 -)… إلخ. كان هؤلاء وسواهم من أشدّ المنتقدين والثائرين على العنف والتسلُّط وسيطرة التقنيّة، وما يُرافق ذلك من اغترابٍ وتشييءٍ للإنسان، وما أنتجته أفكار التنوير من مفاهيم طوّعتها الحداثة أو الغرب في سبيل الهَيْمنة على العقول بدلاً من تحريرها، ومُمارسَة التضليل الإيديولوجيّ، تحت عناوين برّاقة.

كثرٌ هُم هؤلاء المفكّرون والفلاسفة والمثقّفون الغربيّون الذين لم ينقطعوا يوماً عن نقد الحضارة الغربيّة ومُمارساتها حتّى الساعة. ففي حوارٍ أعقبَ أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، أجرته جيوفانا بورادوري Giovanna Borradori، وهي أكاديميّة وباحثة أميركيّة من أصلٍ إيطالي، مع كلٍّ من هابرماس وجاك دريدا Derrida Jacques، ينتقد الأوّل رئيس الولايات المتّحدة الأميركيّة آنذاك، جورج بوش الابن، قائلاً: “عندما يُطلِق بوش وجماعته تسمية محور الشرّ، يكون علينا بلا شكّ أن نبتسم، وأن نفضح في آنٍ معاً التضمينات الدّينيّة، والحيَل الصبيانيّة، والتعمية الظلاميّة لهذا الأسلوب المُتقعِّر”، لأنّ هذا السلوك الغربيّ ما هو، بحسب هابرماس، إلّا مواجهةٌ لِما يُهدِّد “عَولَمة العالَم” ( جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب، ترجمة خلدون النبواتي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص167)؛ فيما اعتبر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا أنّ حَدَثَ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول كَشَفَ عن “سُباتٍ عقائديّ” للغرب، لا يُمكن الاستيقاظ منه سوى بتفكُّرٍ فلسفيّ جديد، لأنّ الخطاب السائد، والمقصود الخطاب الغربيّ بالطّبع، هو، في رأيه، “خطاب وسائل الإعلام، والكلام الرسمي المُتحذلق الذي يَعتمد بسهولةٍ مُبالغٍ فيها على مفاهيم مثل “الحرب” أو “الإرهاب” (القومي أو الدولي)” (المرجع نفسه، ص169)، وأنّه كلّما كان مفهوم الإرهاب غامضاً ودوغمائيّاً “كان من السهل مواءمته انتهازيّاً”، وأنّه نتيجة “القرارات المُستعجلة للأُمم المتّحدة وإدانتها، بلا نقاشٍ فلسفي لموضوع “الإرهاب الدوليّ”، تكون قد خوَّلَت الولايات المتّحدة استخدامَ جميع الوسائل، التي رأتها الإدارة الأميركيّة مناسبة، فقامت بملاءمتها، وفقاً لأغراضها، لتحمي نفسها ممّا يُدعى الإرهاب الدولي” (ص174).

الجذور النفسيّة والسوسيولوجيّة للضغينة

إذا ما عُدنا بالتاريخ إلى علاقة العرب بغيرهم من الحضارات، ومنها الصينيّة تحديداً، نلْحظ مثلاً، أنّه، وبعكس ما مثّله “طريق الحرير القديم” من رمزٍ لتبادلٍ اقتصاديّ وتجاريّ وثقافيّ متكافئ بين الحضارتَيْن، ولعلاقاتٍ سلميّة خالية من الأحقاد، انطوتْ علاقةُ الغرب بالعرب على أحقادٍ سبَّبتها الغزوات والاحتلالات والاستعمارات المباشرة، واستغلال مواردهم الطبيعيّة والبشريّة. يَذكر الكاتب الصينيّ “وو قن يو” في مقدّمةِ كتاب “جذور الثقافة والقِيم الصينيّة” أنّه “في الحادي عشر من شهر يوليو في السنة الخامسة بعد المائة الرّابعة عشرة للميلاد تحديداً، انطلقَ من ميناء ليوجياقانغ في مدينة سوتشو، أسطولٌ صينيٌّ عظيم في رحلة عبر نهر اليانغتسي، ومنه إلى المُحيط الهادئ. كانت تلك بداية أعظم رحلة بحريّة عرفها تاريخ الصين والعالَم آنذاك. اشتمل الأسطول على عددٍ من السفن الضخمة؛ أضخمها بطول 148 متراً، وعرض 60 متراً، وحمولتها أكثر من ألف طنّ وتتّسع لألف راكب. لم تكُن مهمّة الأسطول البحث عن الذهب أو الكنوز الأخرى، وإنّما نَشْر فضيلة رن (أي الرّحمة) لإمبراطور أسرة مينغ إلى بلدان جزر جنوبيّ المُحيط الهادئ، بهدف إقامة تعايُشٍ سلميّ معها… كان عالَماً مُختلفاً عن الدوافع التي جعلتْ كولمبوس يُبحِر بحثاً عن الثروة عبر الأطلسي” (ترجمة حسين إسماعيل، صادر عن مؤسّسة الفكر العربيّ، 2012، ص13). فكان عالَماً مُختلفاً عن علاقة السيطرة والاحتلال التي مارسها الغربُ الاستعماريّ على غيره من بلدان المعمورة منذ أواسط القرن الخامس عشر، والتي عرَّضت التبادُلات الثقافيّة الغنيّة على طول الحزام الثقافيّ لطريق الحرير القديم للاضطراب “عندما بدأتِ البوارج الحربيّة الأوروبيّة سعيها للسيطرة على منافذ التجارة والمواصلات في العالَم القديم، تمهيداً لشنّ حملتهم العدوانيّة على شعوب آسيا وأفريقيا. وبالفعل قامت البوارج بإحكام سيطرتها على طُرق ومنافذ البحر الأحمر والمُحيط الهنديّ لتعوق التبادُل التجاريّ والثقافيّ السلميّ ولتُعكِّر كذلك سلام الشعوب. ولأوّل مرّة منذ عدّة قرون بدأت الشعوب القاطنة على ضفاف وجُزر المُحيط الهنديّ والخليج العربيّ تسمع طلقات المَدافع بدلاً من أهازيج البحّارة القادمين من الصين” (جعفر كرار أحمد، “الحزام الثقافيّ: تاريخ التبادُل الثقافيّ بين الصين والعرب”، مجلّة المستقبل العربيّ، العدد 459، أيّار/ مـايو 2017).

ما ذكره “وو قن يو” وسواه يؤكِّد أنّ الضغينة التي يحملها بعض العرب تجاه بعض الغرب هي صنيعة هذا الغرب نفسه وزيفه، وليست البتّة كما يصفها بعض الغرب أيضاً، بأنّها ناتجة عن “صراع حضارات” و”طوائف” تُرجِمَ بالإسلاموفوبيا، ورهاب الغرباء xénophobie، بل إنّها صراع الضعيف ضدّ القويّ الذي يستأثر به وبوجوده، والتي تعود بجذورها إلى الماضي البعيد. وفي هذا الصدد يُخبرنا الباحث العراقيّ هادي العلوي أنّه مع احتدام الصراع السياسيّ والاجتماعيّ في الدولة الإسلاميّة، صارت كلٌّ من الهند والصين محطّةَ لجوءٍ للمُعارضة الإسلاميّة. وأنّه لوحِظَ توجُّه المُعارضين المُسلمين إلى الأصقاع الشرقيّة دون بلدان أوروبا الأقرب مكاناً، مع أنّ كلاهما، بحسب منطق ذاك الزمان، “دار كفر” عند المُسلمين. أمّا تفسير ذلك، فهو “عدم ظهور حالة حرب كتلك التي سادت بين المُسلمين وكلٍّ من الروم والافرنج”، في حين أنّ ذِكر الهند والصين كان يتمّ في سياقٍ طبيعيّ، وذكْر الروم ومَلك الإفرنج بطاغية “الافرنج أو الطاغية بإطلاق. ويُذكر مَلك الصين ومَلك الهند بلقبه العاديّ” (هادي العلوي، المستطرف الصينيّ “من تراث الصين”، دار المدى، 1994، ص 293 – 294).

غزّة المذبوحة

بالعودة إلى أحداث غزّة المضرّجة بدماء أبنائها، نقف مدهوشين، مرّة تلو المرّة، أمام هذا العالَم الذي فقدَ فيه الإنسانُ إنسانيَّتَهُ، والخطابُ مدلولاتِه، فصارت “الهمجيّة” بمفهوم إسرائيل والقوى الغربيّة المُسيطرة، تُعادِل الحضارة، و”القتل والإبادة” يُعادلان التسامُح والتعايُش، و”تزييف الواقع” يُعادل الشفافيّة، و”مُحاربة الاحتلال” تُعادل العدوان… إلى ما هنالك من اختلاط الدّوال والمدلولات غايته تثبيت معادلة حقّ الغالِب والأقوى في محو المغلوب والأضعف في إطارٍ من علاقة غير مُتكافئة تمنح الحقّ الحصري للأوّل في الاستئثار بالحياة والثروات والأرض والمَوارِد.

* منقول من موقع مؤسّسة الفكر العربي

مقالات ذات صلة