*الحلقة السابعة: الانقاذ والمليشيات.. عبد الرحمن الغالي*

بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة السابعة:
الانقاذ والمليشيات
قامت الجبهة الاسلامية القومية بانقلاب في 30 يونيو 1989 لقطع الطريق على خطوات السلام التي شارفت نهايتها حينما وقّعت الحكومة الديمقراطية وحركة التمرد الجنوبية ( الحركة الشعبية لتحرير السودان) اتفاقاً لوقف إطلاق النار. وتم تحديد موعد لانعقاد المؤتمر الدستوري في 18 سبتمبر 1989.
ولتثبيت حكمها كحزب أقلية تبنت الجبهة الاسلامية نهج التمكين السياسي والاقتصادي والعسكري حيث قامت:
– بحركة إحلال وإبدال كبيرة في الخدمة المدنية والعسكرية بتمكين عضويتها وإبعاد غير الموالين.
– إفراغ مؤسسات الدولة من مضمونها وبناء مؤسسات مدنية وعسكرية موازية: حيث عملت في مجال الاقتصاد على بيع مؤسسات القطاع العام وقامت بخصخصة كل الاقتصاد لصالح منسوبيها أو على الأقل لجهات لا تخشاها، وسمحت بدوران المال الحكومي خارج النظام المحاسبي المعلوم بتجاوز أورنيك 15 وهو الأورنيك المالي الذي كان يتم عبره تحصيل الأموال الحكومية، وأدخلت مبدأ التجنيب ( الاحتفاظ بمال حكومي خارج النظام المحاسبي) للصرف خارج الأطر المحاسبية. وخلقت كذلك مؤسسات اقتصادية ومالية موازية للدولة وقامت مؤسسات القطاع الخاص بكل وظائف الدولة في كل المجالات.
– أما في المجال العسكري فقد خلقت تنظيمات عسكرية موازية: الدفاع الشعبي موازياً للجيش والشرطة الشعبية في موازاة الشرطة والأمن الشعبي في موازاة جهاز الأمن رغم احتشاد تلك الأجهزة النظامية الحكومية بمنسوبي النظام على مستويات القمة.
– وقامت بعسكرة المجتمع حيث قامت بالزام منسوبي الخدمة المدنية بدخول دورات الدفاع الشعبي وألزمت الطلاب والشباب بالتجنيد الاجباري في الخدمة العسكرية الالزامية.
– كما قامت بانشاء المجموعات العسكرية الخاصة ككتائب أيديولوجية مساندة للجيش مثل ( السائحون).
– وعمد النظام لهندسة اجتماعية فقام بإعادة بناء الإدارات الأهلية والصوفية وتعيين منسوبيه على رئاسة الادارات الأهلية وما أمكن في الطرق الصوفية واضعاف النظار غير الموالين. وقام النظام بالاستعانة بالادارات الأهلية في تجنيد أفراد القبائل في الدفاع الشعبي وفي المليشيات المساندة للحكومة في مناطق النزاع كما سنرى تفصيلاً.
الانقاذ وحرب الجنوب والمليشيات
– بنى نظام الانقاذ شرعية قيامه على الإدعاء بضعف الحكومة الديمقراطية العسكري واتجاهها نحو السلام بطريقة متساهلة تفرط في هيبة الدولة وفي التوجه الاسلامي، لذلك تبنى النظام شعارات الحسم العسكري بعد أن ألبسها ثوباً أيديولوجياً ( إسلاموياً عروبوياً) وأعلن الجهاد، لذلك احتاج النظام للتجييش والتحريض على الأسس الدينية والإثنية. إضافة للسبب الرئيسي الآخر وهو تكوين جيش خاص لحماية النظام من أي انقلاب محتمل عليه من الجيش.
– ففي أول سنة من قيامه سن الانقلاب قانون الدفاع الشعبي وهي فكرة كما رأينا دعت لها الضرورة منذ أيام حرب الجنوب المبكرة حينما استهدفت تلك الحركات المتمردة المدنيين والبنى التحتية المدنية في مواجهة عجز الجيش الحكومي عن تغطية مساحات واسعة والدفاع عنها. وازدادت الحاجة لتسليح المواطنين للدفاع عن أنفسهم كما رأينا عندما نقلت الحركة الشعبية لتحرير السودان نشاطها لمسرح العمليات الثاني ( أي شمال السودان) وذلك ليس باستهداف الحاميات العسكرية وإنما باستهداف القرى والفرقان والأعيان المدنية من جسور ووسائل النقل النهري وحتى اسقاط الطائرات المدنية.
– كانت فكرة الدفاع الشعبي قبل الانقاذ محصورة في الدفاع عن المناطق المهددة فقط في مناطق التماس وأن تكون القوات دفاعية فقط ولا تشارك في الأعمال الحربية الهجومية مع الجيش وأن تظل بمناطقها فقط ولا يتم نقلها لمناطق أخرى، وأن يكون صرف السلاح تحت إشراف القوات المسلحة.
ومع كل تلك الضوابط لم تنفذ الفكرة فقد كان عليها أن تمر عبر الحوار السياسي ثم الإجازة من البرلمان الديمقراطي. ولكن نظام الانقاذ توسع في الفكرة وأجاز قانونها فتم التجنيد في كل السودان، وصارت تشارك في الأعمال القتالية الهجومية كفصيل مساند للجيش وبذلك فتح الباب لوجود قوات شبه عسكرية تقاتل مع الجيش.
وفي مناطق جنوب كردفان ودارفور تم تجنيد الدفاع الشعبي على أسس قبلية وعبر الادارات الأهلية لا سيما في مناطق التماس مع الجنوب.
صارت قوات الدفاع الشعبي تشارك في القتال في الجنوب وصارت قواتها في مناطق التماس تمضي في حراسة القطارات ( قوات المراحيل) وحراسة الرعاة في رحلتهم الموسمية نحو الجنوب.
وهذا إضافة للتوسع في دعم المليشيات القبلية الجنوبية المناوئة للحركة الشعبية على أسس سياسية أو قبلية ضمن سياسة مكافحة التمرد المذكورة سابقاً counter insurgency strategy
( مليشيات النوير والشلك والاستوائيين الخ) والتي تسمى القوات الصديقة.
حرب دارفور:
تضافرت عوامل كثيرة موروثة ومستحدثة في نشوب حرب دارفور. من العوامل الموروثة:
– الاحتكاكات القبلية بسبب الأرض وملكيتها ( بين قبائل لها حواكير وقبائل مستضافة ليست لها حواكير وبالتالي ليست لها نظارات معترف بها).
– الاحتكاكات بين الرعاة والمزارعين ومسارات الرعاة التي تفسد زرع المزارعين.
– دخول السلاح وعصابات مسلحة من جراء الحرب التشادية/ التشادية والتشادية/ الليبية ودخول لاجئين من تشاد بسبب الجفاف والحروب بسلوكيات مختلفة عن سلوكيات أهل دارفور مما قاد لظاهرة النهب المسلح
– هذا إضافة لخصوصيات دارفور التاريخية من حيث تمتعها لفترات طويلة بنظام اداري مستقل حيث انضمت مؤخراً للسودان التركي المصري في 1874م بعد أكثر من نصف قرن من الاحتلال التركي ثم انضمت للسودان الانجليزي المصري بعد 18 سنة من احتلال السودان في 1898. هذا اضافة لتميز دارفور بقوة النظام القبلي.
المشاكل الجديدة:
ثم جاءت عوامل مستحدثة أدخلتها أو صنعتها حكومة الانقاذ منها:
– تسييس الادارة الأهلية وشراء الزعماء مما أضعف الادارة الأهلية وأفقدها احترامها وزرع التنافس والتشظي داخل المكونات القبلية. كل ذلك أضعف الدور الاداري والمجتمعي والأمني الذي كانت تقوم به الادارة الأهلية لا سيما في تقاليد الصلح القبلي .
– انتشار ثقافة العنف بانتشار السلاح وانتشار التكوينات المسلحة (الدفاع الشعبي على أسس قبلية – الشرطة الظاعنة الخ).
– إذكاء القبلية: عبر حظر الأحزاب القومية التي كانت تشكل مؤسسات أفقية تضم مختلف القبائل ويتم التنافس بينها عبر البرامج وبعد حظرها وتبني نظام الحزب الواحد أصبحت العصبية القبلية هي المرجح بين المتنافسين.وكذلك أدى تخلي الدولة عن الرعاية الاجتماعية والتوسع في سياسة التحرير الاقتصادي لعودة المواطنين لقبائلهم كمؤسسات ضمان اجتماعي. هذا إضافة لممارسات التقسيم الإداري القائمة على محاولة كسب الولاء السياسي للقبائل.
– الفاقد التربوي: التوسع في التعليم العالي دون ربطه بالتنمية وإيجاد وظائف خلق فاقداً تربوياً يصعب عليه العودة للعمل في المجالات التقليدية (الرعي والزراعة) مما شكل ذخيرة مع عوامل أخرى للعمل الاحتجاجي المسلح و المدني.
1) الفساد المعلن: وأوضح مظاهره بالنسبة لإقليم دارفور اقتطاع نصيب المواطنين من السكر لتمويل طريق الإنقاذ الغربي والذي لم يكتمل وصحبه فساد مالي مما أدى لشعور أهل الإقليم بأنهم خدعوا وسرقت أموالهم.
– القدوة السيئة لاتفاقيات السلام في الجنوب والتي حصرت التفاوض فقط مع حملة السلاح مما أرسل رسالة واضحة وهي أن الحقوق لا تؤخذ إلا بقوة السلاح.
– ثم جاء انقسام الجبهة الاسلامية الحاكمة إلى جناحين: مؤتمر شعبي برئاسة د. الترابي عرّاب النظام، ومؤتمر وطني برئاسة البشير والنخبة الأمنية والعسكرية الحاكمة. بعد فترة وجيزة من ذلك الانقسام مضى النظام تحت الضغط الغربي في مفاوضات سلام مع الحركة الشعبية ( حركة قرنق). وللضغط على النظام الحاكم اتفق حزب المؤتمر الشعبي برئاسة الترابي مع الحركة الشعبية برئاسة جون قرنق على فتح جبهة عسكرية في دارفور بعد أن فشلت الحركة الشعبية في فتح تلك الجبهة بمفردها بعد محاولة داؤود يحيى بولاد أحد المنشقين من نظام الانقاذ والتحاقه بالحركة الشعبية حيث حاول بولاد دخول دارفور بقوات من الحركة الشعبية في اطار استراتيجيتها لنقل الحرب للشمال.
تم توقيع “مذكرة تفاهم بين ممثلي الحزبين في 19 فبراير عام 2001 وقع باقان أموم وياسر عرمان عن الحركة الشعبية وعمر إبراهيم الترابي والمحبوب عبد السلام عن المؤتمر الوطني الشعبي.
وفي تلك الفترة تم تكوين حركة تحرير دارفور ثم تم تغيير اسمها لحركة تحرير السودان وهي حركة أبوها الروحي دكتور جون قرنق ونموذجها الحركة الشعبية لتحرير السودان، كما تكونت حركة العدل والمساواة وقادتها ” أسلاميون” قريبون من دكتور الترابي وكانوا رموزاً في نظام الانقاذ قبل المفاصلة بين الترابي وتلاميذه.
وعلى الرغم من الخلفية السياسية للحركات المسلحة إلا أن واقع التجنيد وقيادة الحركات كانت على أسس قبلية وإثنية بحتة، وسرعان ما انقسمت الحركات وتشظت على تلك الأسس. ولكن بصفة عامة تكونت الحركتان من المكونات غير العربية لا سيما الاثنيات الثلاث الكبرى: الزغاوة والفور والمساليت.
بشرت الحركة الشعبية لتحرير السودان بفكرتها القائمة على ما يسمى تحالف قوى الهامش وصبت نقدها على ما تسميه الصفوة النيلية العربية الإسلامية المهيمنة في الخرطوم ولم ينحصر نقدها في الجبهة الاسلامية. وأعطت المظالم التنموية والسياسية صبغة عرقية حيث مثلت الوجه الآخر لفكر الجبهة الاسلامية .وصارت ملهماً على المستوى الفكري والنظري لكثير من الحركات هذا عدا الدعم العسكري واللوجستي والتدريب الذي قدمته للحركات الوليدة في دارفور.
هذه هي العوامل التي هيأت مسرح الإقليم لتحرك عسكري ذي أهداف سياسية ضد الحكومة. وأشعلت حرباً أحدثت اختلافاً نوعياً عن كل مشاكل دارفور السابقة أهم ملامحه:
– الاثنية المسيسة الساعية لتحقيق طموحات سياسية عبر العمل المسلح.
– حمل السلاح ضد الدولة المركزية.
– الكارثة الإنسانية حيث تم نزوح ولجوء أعداد ضخمة من مواطني الإقليم في ظروف إنسانية قاسية وما أعقب ذلك من اهتمام عالمي رسمي وشعبي.
– تدويل قضية دارفور (سياسياً وعسكرياً).
وفي الحلقة القادمة ان شاء الله نواصل الحديث عن بداية حرب دارفور وصنع مليشيات الجنجويد.
عبد الرحمن الغالي

مقالات ذات صلة