بالنظر لإرهاصاتها البادية للعيان، فحرب السودان تأخرت كثيراً لتندلع في الخامس عشر من أبريل. ففي التاريخ الذي إُعلن فيه عن اختفاء طائرة الرئيس جون قرنق، وما ترتب عليها من أحداث، كان أول من تفقدني الأخ الصديق مصطفى مختار بدري (الشهير بكاكوم). فبالإضافة للاطمئنان بدى أن الكاكوم كان مندهشاً لمناظر توقعتها وصورتها له بما سيحل بالخرطوم من انفجار. صحيح أنه، وخلال بضعة أيام، تم التجاوز شكلاً بلملمة مظاهر النيران التي كانت تأكل أطراف الوطن، وكثيرون متجاهلين كرة ثلج ظلت تتدحرج وحتماً ستبلغ أم القرى. حرب الخامس عشر من أبريل لا خلاف بين كل المحللين على توصيفها مجملاً كصراع على السلطة. ما يتجاهله أو يخفى على معظم المحللين أن نفوذ حملة السلاح عبر تاريخنا كانت تغذيه قوى سياسية شكلت حاضنة لعسكري طامح في الحكم.
قبل أن تندلع هذه الحرب انحاز حميدتي لمعسكر الاتفاق الإطاري الذي أعده مركزي الحرية والتغيير بدعم إقليمي ودولي. بالمقابل تراجع البرهان عن التوقيع النهائي متذرعاً بضرورة أن تنضوي تحته جميع القوى السياسية، وعلى وجه التحديد الكتلة الديمقراطية. في ظل هذه التداعيات كانت الحرب هي النتيجة الراجحة لعملية سياسية يقودها مسلحان. مهما يكن من أمر، فإن الواجب يحتم إدراك ما يمكن إدراكه، ولما لي من علاقة مع مع عدد مقدر من قيادات مركزي الحرية والتغيير، وخلال فترة قصيرة من اندلاع الحرب، أتصلت بالمهندس عمر الدقير عبر أحد الأصدقاء مقترحاً تشكيل حكومة طوارئ تتولى ترتيبات وقف الحرب، وأن تتألف هذه الحكومة من الكفاءات الوطنية غير المنتمية حزبياً. بررت للفكرة بأن طرفي الحرب لن يثقوا إلا في طرف ثالث بالذات إذا قبلت القوى السياسية بالخيار ومن ثم كشف الغطاء عن الحريص على استمرار الحرب. عبر صديقي الذي هو من المقربين للدقير، تلقيت رد الأخير بالموافقة على المقترح شريطة أن يسمي طاقم الحكومة المجلس المركزي للحرية والتغيير.
هذا الاشتراط، ولأنه إقصاء في غير محله ومن شاكلة الخوف من إغراق الإطاري، فحتماً سنعود لمنظر ما قبل الحرب. منذ اليوم الأول لنجاح الثورة كنت وما زلت وسأظل أكتب وأردد بألا سبيل لإنهاء الحروب أو نجاح الانتقال إلا بتوافق الفاعلين والقوى السياسية على قيادة من كفاءات وطنية غير منتمية لأي حزب من الأحزاب. ففي الفترات الانتقالية السابقة تجلى الفشل باختطاف الثورة أو السيطرة عليها من حزب أو تحالف والآخرون بدكة البدلاء. اي سيطرة بلا استحقاق لن يقابلها المتفرجون بملائكية وإنما حتماً سيعملوا، وبكل ما يملكوا، على فشل من سيطروا والعكس صحيح. في حادثة الحجر الأسود لجأ أهل مكة لتحكيم الصادق الأمين. وبكل الصراعات المسلحة وغيرها، لم تعرف البشرية سبيل غير التحكيم كأفضل وسيلة ودية لحل النزاعات. حرب السودان لم ولن تتوقف حتى تقتنع كل القوى أن الاحتشاد والاصطفاف والاستقطاب يطيل الحروب ولا ينهيها، فهل من سبيل؟
عبد العظيم حسن
المحامي الخرطوم
25 يونيو 2024