ثمانون وخمسة أعوام مرت، وما زال صوت «هنا أمدرمان» ينساب إلى الأرواح… صوت نحبه بعمق، نؤمن به بصدق، نرتاح له كما نرتاح لحديث صديق قديم يعرف قلوبنا قبل أن نبوح.
الإذاعة السودانية لم تكن مجرد مؤسسة، بل هي ذاكرة وطن، وأرشيف وجدان. منذ لحظة انطلاقها، نسجت خيوط المحبة بين أبناء السودان، من أقصى الشمال إلى تخوم الجنوب، ومن أرياف الشرق إلى جبال الغرب. كانت وما زالت الوحدة التي تتكلم، والقلب الذي ينبض باسم الوطن.
وفي احتفالية دافئة أقيمت يوم الجمعة الماضية الثاني من مايو الذي يصادف ذكرى انطلاق الإذاعة السودانية ، حيث مر على تأسيسها ٨٥ عاما ، اجتمع نفر كريم من العاملين والمنتسبين للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وخاصة أسرة الإذاعة، احتفاء بمسيرة إذاعتهم العريقة.
ولم تكن الاحتفالية ذات طابع رسمي أو تنظيمي كبير، بل كانت مبادرة تلقائية، دعا إليها الزملاء عبر مجموعات التواصل الاجتماعي، بروح المحبة والانتماء، دون دعوات رسمية أو ترتيبات تقليدية.
وفي هذه الأمسية المفعمة بالحنين، عبر المتحدثون عن حبهم العميق لهذا الكيان العتيق، مؤكدين أن الإذاعة السودانية كانت ولا تزال صوتا للوطن، وصوتا للناس، وصديقة الأيام الصعبة والجميلة.
وتحدثوا، وقد علت نبرات الفخر والوفاء أصواتهم، عن أثر الإذاعة العميق في رتق النسيج الاجتماعي، وكيف كانت وما تزال رمزا لوحدة الوجدان السوداني تحت شعارها الخالد:
“هنا أمدرمان، وحدة السودان، وحدة الوجدان”.
واستذكروا دور الإذاعة الرائد عبر العقود: كيف كانت منارة للتثقيف، ومنبرا للإخبار الصادق، ومدرسة للتعليم والتنوير، ومنبرا للدراما الهادفة والترفيه الراقي، وكيف حملت مشعل التوعية في مجالات الدين، الزراعة، الصحة، شؤون الأسرة، والرياضة، لتلامس حياة الإنسان السوداني في أدق تفاصيلها.
ولم يغب عن كلماتهم الإحساس بالمسؤولية الوطنية تجاه المرحلة المقبلة، حيث شددوا على ضرورة صيانة ودعم الأجهزة الإعلامية الرسمية، خاصة بعد ما تعرضت له من دمار وحرق وخراب على يد المليشيا المتمردة، مؤكدين أن الإعلام الوطني سيبقى دائما أحد أهم روافد صمود الدولة ونهضتها.
وكانت المشاركات الصوتية لعدد من القامات الإذاعية العريقة عنوانا للوفاء:
من قطر، تحدث الأستاذ معتصم فضل، المدير الأسبق للإذاعة السودانية، والإذاعي الكبير محمد الكبير الكتبي الخبير في قناة الجزيرة وأحد أبناء الإذاعة البررة.
ومن نيويورك، أطلت الإذاعية إحسان عبد المتعال.
ومن الصين، صدح الإذاعي أسامة مختار برسائل محبة.
ومن مانشستر، شارك الإذاعي القدير عثمان حسن مكي، الذي كانت له صولات وجولات مع برنامج “عالم الرياضة” الشهير.
كما تحدثت المذيعة المتميزة سارة محمد عبدالله.
وأثرى اللقاء بكلماتهم الخبراء في فنون العمل الإذاعي الدكتور عبد العظيم عوض، والطيب قسم السيد، والطيب بانقا، الذين استعادوا مع الحضور بعضا من سحر الميكروفون وسيرة الإذاعة الزاهية.
٨٥ عاما، والإذاعة السودانية تمضي معنا كصديقة وفية لا تغادرنا. تدخل البيوت بأدب المحب، وتجاور الأرواح بأمانة الكلمة ونقاء الرسالة. علمتنا أن الصوت ليس مجرد ذبذبة عابرة، بل وعد بالحياة.
تحية من القلب لكل من عبر الأثير، ولكل من مد يده عبر الأثير ليزرع وردة في دروبنا.
تحية لأولئك الذين كتبوا للإذاعة فصولا من الوفاء، وجعلوا من أصواتهم قلادة على صدر الذاكرة.
وستظل “هنا أمدرمان” أكثر من إذاعة…
ستظل بيتنا المفتوح، وصوتنا الدافئ، وصديقة القلوب التي لا تعرف الغياب.