عاد المقال في نقد نهج أمريكا في جعل القوات المسلحة سواء بسواء مع قوات الدعم السريع إلى خبرتين أمريكيتين في حل جيشي هايتي والعراق لتحل بالبلدين كارثة غلبت الغلاب. فانفرط احتكار السلاح فيهما فسادت المليشيات العراق وتمكنت العصابات من هايتي. وقلت:
نذر انحلال الجيش السوداني في الأفق. فحتى من كانوا يريدون لقوات “الدعم السريع” الدمج في القوات المسلحة حسب الاتفاق الإطاري قبل الحرب جنحوا بعدها إلى الدعوة لانحلال كليهما في جيش قومي مهني. وهذه خطة مبهمة ومجازفة أكثر حملتها من معارضي الإنقاذ ذوي الموجدة على جيشها، وصادرة عن عاطفة سياسية معارضة لا عقل في فقه الدولة، كما أحسن الرجل من هايتي القول. بل هي من قماشة معارضة العراق لحكم البعث التي صفت ثاراتها معه بعد انهياره بحل جيشه. وليس مثل أميركا، التي انحلت الجيوش في هايتي والعراق في نبطشيتها ليحل على البلدين بلاء عظيم بالنتيجة، من يراجع قادة التجمعات المدنية السودانية من دون خطة حل الجيش. فأميركا لا تزال عند التزامها باستعادة مسار التحول الديمقراطي الذي قطعته هذه الحرب وكأن الحرب مجرد “فاصل ونواصل” بينما ستحف به أخطار أن نضرب في مجهول سوداني لا جيش فيه ولا دولة.
وتوافرت خلال الأسبوع الماضي نافذة لنرى هذه الأخطار فيما انكشف لنا عن تركيبة ميليشيات “الدعم السريع” في “واقعة الجنرال جلحة” التي ملأت السودان وشغلت الناس. وبرزت تراكيب ميليشية مخيفة إن سادت قواها فلربما كان الانتقال الديمقراطي هو آخر ما سيحتاج إليه السودان.
فكانت قناة الحدث عرضت لمستشار “الدعم السريع” عمران عبدالله تصريحاً للجنرال محمد الصادق جلحة عن أن قواته شملت أجانب من النيجر وأفريقيا وجنوب السودان وليبيا. وسألته في معرض نفي “الدعم السريع” وجود مقاتلين أجانب في صفوفه، إن كان جلحة قائداً عسكرياً مأذوناً في “الدعم السريع” يؤخذ بقوله. فرد عمران قائلاً إنه فرد من العساكر وليس قائداً من القادة ذوي الكلمة في “الدعم السريع”.
وأضاف أنه “إذا كان كل واحد يقول ما يحلو له ’الدعم السريع‘ لن يكون مؤسسية”. وثارت ثائرة الجنرال جلحة وقياداته وقواته على ذلك التهوين من شأنه ثورة شغلت الرأي العام خلال الأيام الماضية. وخرجت من تصريحاتهم حقائق عن البنية العسكرية لـ”الدعم السريع” والميليشيات الحليفة له تثير الأسئلة عن طبيعة تراتيب سلسلة القيادة والضبط والربط فيها.
وسيرة الجنرال جلحة هي سيرة جماعة من المغامرين المسلحين ممن خرجوا للسياسة في عهد الإنقاذ حين احتاجت للبندقية الأجيرة للقضاء على التمردات عليها بأرخص سبيل كما يقولون.
فخرج في حركة اسمها “شجعان كردفان” (الولاية المتاخمة لدارفور شرقاً) ومن شعب البقارة المسيرية الذين استعانت حكومات متعاقبة بطوائف منهم في حربها للحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق). فذكر الجنرال أوقاتاً له في جنوب السودان لربما لكونه طرفاً في قوات الدفاع الشعبي لحكومة الإنقاذ.
ثم ذكر أياماً له في حركة تحرير السودان (عبدالواحد محمد نور). وكان الجنرال عاد للسودان من ليبيا في رتل من المسلحين والتاتشرات خلال سبتمبر (أيلول) 2023. وبدا أنه غادر لليبيا بعد الإفراج عنه خلال عام 2014 بعد خمسة أعوام من السجن من مدة محكومية 14 عاماً أعفته من حكم الإعدام الصادر في حقه في دولة الإنقاذ. وليس واضحاً ما كانت التهمة يومها، ولكن السجن أوغر صدره على الإنقاذ وربما كانت تلك بداية حركته المسلحة. وظاهر الجنرال ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 ضد كل من الجيش و”الدعم السريع” وعرض أن يحمي اعتصام حراكها حول القيادة العامة للقوات المسلحة، وأن ينفذ بها إلى هدفها بالقوة إن لم تنفذ بقوة السلمية. وهو صريح في أن من بين قواته مسلحين من النيجر وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا، بل يذكر بالعرفان من أعانوه من الليبيين وهذا الاعتراف بأجنبية بعض قواته ومصادره ما كان موضوع قناة الحدث.
خرج جلحة وبعض قادته في عدد من الفيديوهات وسط جماعاتهم المسلحة بزيها العسكري للرد على مستشار “الدعم السريع”. وهي ردود تعين في فهم تراكيب قوات “الدعم السريع” التي تنتظر سقوط السودان في يدها.
وقال عن علاقته بـ”الدعم السريع” إنه ليس منه بل “هو قائد شجعان دارفور وقائد التدخل السريع في السودان”. وذكر أن ما يجمعه مع “الدعم السريع” هو القضية التي لم يذكرها بل ذكر قواها وهم المهمشون والشرفاء.
وقال إنه وحميدتي حلفا على المصحف أن يقاتلا من يقاتل قوات شجعان كردفان ويسالم من يسالمهم. ونفس الحال بالطبع مع من يقاتل “الدعم السريع” ويسالمه. ومن آيات استقلال الجنرال عن “الدعم السريع” ذكره اسم ورتبة قائد شرطة حركته العسكري واسم ورتبة قائد شرطة “الدعم السريع” العسكرية ككيانين متوازيين.
بل قال إن هذه الحرب هي حربه وسيواصلها حتى لو تركها حميدتي. ومع حلفه “الدعم السريع” إلا أن الجنرال منكد من جهات فيه. فذكر بالاسم عثمان عمليات النجم البارز في قيادة “الدعم السريع”. وجاء بشكوى منه غير واضحة طلب فيها منه أن يصحح معلوماته. فتنزه الجنرال جلحة أن يكون قد طلب منه ذخائر ولا بنزيناً ولا التصديق بسيارات لقواته التي تمول نفسها بنفسها. وذكر في موضع آخر أن ثمة بطانة سماهم “مطبلين” حول حميدتي تدس عليه وتنسب لقواته كل كارثة مستنكرة.
وبدا أن جلحة أو من حوله فهموا أن هذا التهوين لهم الذي جاء من مستشار ينتمي لشعب الرزيقات صادر عن “عزة” لهذه الجماعة التي يزعم لها أنها الأكثر نفوذاً في “الدعم السريع”. فقال أبو جودة من قادة الجنرال جلحة إنهم في قبيلة المسيرية لا يقبلون بهذا التهوين للجنرال. فالجنرال في قوله ليس جنرالاً إنه في الحق مشير. ووسط “الله أكبر” تقاطع المتحدث.
وبدا أن الجنرال جلحة يحتكر القرار بالحرب ولا ينتظره من قيادة عليا فوقه. فأصدر أمراً وهو بين عصبة من جنده لقوات في مواضع كثيرة في الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض بالتوجه إلى الخرطوم خلال 72 ساعة.
وقال “الناس تجمع الما جمع نتخذ معه إجراءات”. وسأل عن عدد السيارات المعدة لهذا التجييش فأحصوها 91 سيارة قتالية وخدمة. وغير معلوم الخصم الذي جيش له الجنرال جلحة تلك القوات. وحدس الناس أنه ربما أراد بها الرزيقات في “الدعم السريع” التي استخف مستشار لـ”الدعم السريع” منها به.
حتى أنه تواترت أنباء عن اشتباكات بين المسيرية والرزيقات في منطقة المدينة الرياضية بالخرطوم. وعاد الجنرال في فيديو أخير ليقول إن كل ذلك من وحي الفلول الإسلاميين ودسهم، وأن قوات “شجعان كردفان” شاملة حتى للرزيقات. ومن مظاهر استقلال الجنرال بقرار الحرب قوله إن الانتهاكات التي ترتكبها قواته لا يصح أن تنسب لـ”الدعم السريع” فتسبب له حرجاً. فإن كانت ذنباً فهو معلق في رقبته.
واستقل الجنرال حتى بسياسته الخارجية عن “الدعم السريع” وتمسك بموقفه من تهديد مصر وتركيا وإيران لأنها تزود القوات المسلحة بالسلاح. وقال إنهم هم ضحايا هذا التزويد الأجنبي بطائرات مهاجر والسوخوي وميجر 48. وقال “أنا عند تهديدي ما برجع ورا”. والتفت إلى عصبته من حوله “نحن بنرجع ورا؟” فكبروا. فقال “دا السودان. دا وطنا”.
وفي الجنرال خصلة “التنبر” وهي من خصال الفرسان في السودان يطلقون فيها التصريحات المبالغ فيها عن قدراتهم واستحقاقاتهم قبل المعركة كمثل محمد علي كلاي في المصارعة. فعرف نفسه بأنه قائد “شجعان كردفان” الكبرى (يعرفون أنفسهم عادة بقوم يأجوج ومأجوج) وقائد المهمشين في السودان وقائد اتحاد دول أفريقيا، بل وقائد “الموت المفاجئ”. وقال في موضع آخر إنه هو من رقى حميدتي لرتبة المشير ورئيس مجلس السيادة لـ30 عاماً مقبلاً بعد أن ثبته غيره في فريق أول. وهو قرار قال إنه صدر عن برلمان 7 (؟) و”إذا أميركا ما قبلت تجي في الميدان”. ومن عباراته أن “البلاوي لا تهاب إلا البلاوي”.
لا أعرف إن كانت أميركا حين صرفت قوات السودان المسلحة كجماعة من الأشقياء مثلها مثل “الدعم السريع” قد علمت عن “الدعم السريع” علماً يؤمن مساعيها إلى استعادة مسار التحول الديمقراطي من يوم للجنرال جلحة بغير “الدعم السريع” نفسه. وما يوم جلحة ببعيد.
*منقول من صفحة د. عبدالله علي ابراهيم*