يا عمر، أيها الظل الثقيل الذي لم يغادر هذه البلاد حتى بعد أن سُحلت سلطتك تحت
أقدام الغضب، أيها الاسم الملطخ بكل ما هو بشع، ما زلنا نعدُّ الجثث، وما زلت أنت أصل الجريمة، الجذر الذي نما منه الخراب، البذرة الأولى التي أثمرت مليشيات، وحروبًا أهلية، ومجاعات، وخرائط دم لا تنتهي.
لا تقل لنا إنك رحلت. لا تقل “ذهبنا وتركناهم يتقاتلون”. لأن الذين يتقاتلون اليوم، ويتذوقون طعم الدم، ويتفاخرون باغتصاب النساء، ويتقاسمون السودان كما تُقسم غنائم القرون الوسطى، هم أولادك السياسيون، هم صنائعك، أبناء مشروعك العفن، فلذات مشروع التمكين الدموي، وربائب بيت الطاعة الذي بنيته من عظام هذا الشعب، ودموع نسائه، وأنينه في معتقلاتك.
من صنع حميدتي؟
من سلّح الجنجويد؟
من غيّب الجيش السوداني الحقيقي في ظلال الأمن والولاءات؟
من شرعن القتل في دارفور؟
من حوّل جهاز الأمن إلى شركة للابتزاز والتعذيب والتخويف؟
من علّم السياسي أن يسكت، والعسكري أن يبطش، والداعية أن يكذب، والمثقف أن يصمت؟
من اختصر الوطن في شخصه، والدين في حزبه، والحق في سكينه؟
من أذلّ الناس باسم الشريعة، وباعهم للعالم باسم السيادة؟
من أخرج الشعب من قلب دولته، وأسكن مكانه المليشيا والعشيرة والقبيلة؟
أنت. نعم، أنت.
لست مجرد طاغية مرت، بل جذر المأساة كلها، اللعنة التي لا تزال تتكرر بأشكال جديدة، ولكن بنَفَسك القديم. لا نحتاج لتفسير طويل. حميدتي ابنك، وفلول حزبك يقتسمون الخراب الآن، ولا شيء مما يجري خارج عن دفترك الأسود الكبير الذي بدأته يوم دخلت القصر على ظهر دبابة وهتفت كاذبًا: إنقاذ!
فماذا أنقذت؟
أنقذت الجريمة، ونظّمتها.
أنقذت الجهل، وعمّمته.
أنقذت الكذب، وشرعنته.
أنقذت الشيطان، وأعطيته ملامح الدولة.
كل هذه الدماء التي تسيل اليوم من أجساد أهل الفاشر، وأهل الجنينة، وأهل الخرطوم، وأهل كردفان، لا تبدأ من حميدتي، بل تبدأ من قرارك الأول بتسليح الرُعاة، وتجنيد القبائل، وتحويل الغضب القبلي إلى أداة حُكم.
يوم جعلت المليشيا دولة، والسلاح منطقًا، والدم عملةً.
يوم سمّيت الاغتصاب “انفلاتًا فرديًا”، والتطهير العرقي “معالجة أمنية”، والتهجير “إعادة تخطيط”، والنهب “حسمًا للتمرد”.
أنت من زرع هذه النار، وأنت من سكبت الزيت عليها. أنت من فتّت البلاد إلى جغرافيا خائفة، وأنت من أوهمت العالم أن الديمقراطية خطر، وأن السلام لا يتحقق إلا على فوهة البندقية، وأن الله يرضى أن تُباد المدن من أجل البقاء في السلطة.
إن أردنا محاكمة حقيقية، فلتبدأ من رأس الجريمة، لا من أدواتها. إن أردنا عدالة، فلن نغفل اسمك وأنت أصل الكارثة. لست مجرد مخلوع تقضي سنواتك في زنزانة باردة، بل رأس أفعى ما زالت تبث السم في كل ركن من هذه البلاد المنهكة.
حتى هذا الصمت المتواطئ من المجتمع الدولي، ومن بعض الأحزاب، ومن النُخب التي كانت تسجد أمامك، هو من إنتاجك. فقد علّمت الناس أن الركوع لمن يملك القوة، وأن الوطنية خدعة، وأن كل شيء يُشترى… حتى الحقيقة.
ولذلك يا عمر، لا تتوارَ.
لا تقل “ذهبت وانتهيت”.
لأن الخراب الذي لا يزال يلتهمنا، يحمل اسمك.
والرصاص الذي يحصد الناس، انطلق من بندقيتك.
والمليشيا التي تذبح القرى، بدأت من تحت أمرك.
والقادة الذين يخونون، تخرجوا من مدرستك.
والانقسام الوطني الذي شلّنا، تأسس في مؤتمراتك.
والعنصرية التي تُستخدم اليوم سيفًا، كانت سلاحك الأثير.
وأكذوبة الدين التي خُدع بها الناس، كانت عمامتك السياسية