*حين أحبّت ظلًا يمشي… وسَمَّته جمعان لأنه جمع بين الطول والهيبة والبسالة*

أسميته جمعان، لأن الاسم جاءني كما تأتي النبوءات، دون سؤال ولا استئذان، خرج من قلبي قبل أن يصعد إلى شفتي، كأنه الاسم الوحيد الممكن لرجلٍ كهذا، جمع بين الهيبة التي لا تحتاج إلى صراخ، والشجاعة التي لا تُعلن عن نفسها، والجمال الذي لا يطلب نظرات الإعجاب بل يفرض احترامًا أعمق من مجرد وسامة عابرة، رأيته في فيديو على هاتف صديقتي، كانت تمرره بلا اهتمام وأنا كنت أراقب الشاشة بعيون امرأة لم تعد تتوقع شيئًا من هذا العالم، امرأة تعلّمت أن تصمت حين تشتهي، وتضحك حين تُجرح، وتبدو بخير كلما اشتد الخراب داخلها، وفي اللحظة التي ظهر فيها على الشاشة، تغيّر كل شيء، كأن قلبي تعرّف عليه قبل عقلي، رجل طويل، مهيب، يتقدّم بخطى واثقة وسط جنودٍ يستعدّون لخوض معركة ضد المليشيا، لا يصرخ، لا يُشير، لا يتوعد، بل فقط… يمشي، يقدل، بثباتٍ يشبه ثبات الأشجار في العاصفة، في وجهه ملامح لا تُنسى، وسمرته تلمع تحت شمس غاضبة، ليست سُمرة العابرين، بل سُمرة الأرض، سُمرة الطين الذي وُلد منه، كأنه خرج من بطن الأرض لا من رحم امرأة، كتفاه عريضتان، متوازنتان، وفي مشيته تماسك لا يُصنع بل يُورث، وكنت أرى تفاصيله ببطء شديد، كمن يخاف أن يغلق عينيه فيفقد مشهدًا مقدسًا، عينيه كانتا أعمق من اللازم، فيهما شيء من الحنين، شيء من الغضب المكبوت، شيء من الحزن الذي لم يقتله بعد، لكن فيهما أيضًا لمعة تُشبه الرجاء، كأنهما تعرفان طريقهما جيدًا حتى لو تهجّر كل شيء من حوله، لم تكن عيناه سوداويتين، بل فيهما ظلّ أخضر بعيد، كأنه يرى الحياة رغم كل شيء، وكان يبتسم، نعم، كان يبتسم، ابتسامة قصيرة لا تكشف الأسنان لكنها تفتح أبواب القلب، تلك الابتسامة علِقت داخلي حتى اليوم، ليست تلك الابتسامة التي تصوّرها الكاميرات، ولا التي يزرعها الممثلون على وجوههم، بل ابتسامة رجل حقيقي، رجل يعرف ماذا يعني أن تبتسم والرصاص خلفك، والغدر حولك، والخوف فيك، ومع ذلك تبتسم، تبتسم لأنه لا خيار آخر أمامك سوى أن تكون النور في زمن الظلام، خطواته كانت هي الأخرى لا تشبه مشية العسكر في العروض، بل تشبه حركة الصدق حين يُترجم إلى جسد، لم يكن يُسرع، لم يكن يتأخر، كان يسير كمن يملك الوقت كله، والحق كله، والإيمان كله، شعرت للحظة أنه ليس جنديًا فقط، بل أسطورة صغيرة تمشي بيننا دون أن تدري أنها أسطورة، لم أعرف اسمه، ولم أبحث عنه، لم أرسل المقطع لأحد، ولم أسأل من أين هو، خفت أن يقال لي شيئًا يقلل من قدسيته، خفت أن أعرف أكثر فأنكسر، أو أن أواجه الحقيقة فلا أتحملها، فأبقيته كما هو، نقيًا، كما التقيت به أول مرة، في تلك الدقيقتين، في تلك النظرة، في تلك الخطوة، في تلك الابتسامة، حفظت المقطع في هاتفي كما تُحفظ الأشياء الثمينة، لا أراه كل يوم، لكن كلما ضاقت روحي، عدت إليه، لا لأشبع حبًا مؤقتًا، بل لأستعيد جزءًا من نفسي التي تاهت، أحببته كما لا يجب أن تُحب الصور، أحببته كأنه جزءٌ مني، كأنه قطعة من قلبي نُزعت منذ زمن وها هي تعود على هيئة رجل في بزّة عسكرية، لا أعلم إن كنت سألقاه يومًا، ولا أعلم إن كان سيعرف أن امرأة من جهة بعيدة أحبّته من نظرة، لكنني أعلم أنني منذ رأيته، تغيّرت، صار للحياة معنى آخر، وللرجال مقياس آخر، وللحب طعم لم أعرفه من قبل، هو لا يعلم أنني موجودة، لكنه موجود فيّ، يسكنني كما تسكن القصيدة بين الشفتين، لا تنطق لكنها تشعل الحنين، ولو كان بإمكاني أن أقول له شيئًا واحدًا، لقلت: شكرًا لأنك أعدت لي نفسي، لا بالكلام، بل بخطوة وابتسامة وعينين واسعتين، شكرًا لأنك عبرت أمامي، وتركت خلفك امرأةً كانت على وشك أن تنطفئ، فأضاءها مرورك بصمت .

مقالات ذات صلة