*عبد الخالق محجوب في عيد ميلاده الثامن والتسعين (23 سبتمبر 1927): دوقلاس جونسون وإطلاق سراح الجنوب من التاريخ (4-5) عبد الله علي إبراهيم*

كانت كلمة عبد الخالق في مؤتمر المائدة المستديرة للتداول في مسألة جنوب السودان (مارس 1965) التي وقفنا عندها في الحلقات الماضية دعوة لزمالة جنوبية في السياسة التي عرّفتها الكاتبة الألمانية هنا أرندت بحوار جماعة فيما بينها عن الجوانب ذات المغزى في حياتها المشتركة. ويتأتى تغيير ما بهم في قولها بالعمل السياسي من فوق منصة هذه الزمالة.
ولم يكن الجنوب في يومه قد تهيأ لمثل هذه الدعوة للخوض في السياسة في تعريف أرندت لها. كان الجنوب في السياسة محض ماض احتقن به، أو حُقن به، سوغ للاستعمار والتبشير الوصاية عليه ب”سياسة المناطق المقفولة” حتى لا يقع فريسة الشمال فيسومونه سوم القرن التاسع عشر من استرقاق وهوان. ونصّبت حتى صفوته الوصاية عليه ب”زرنجته” في واقعة الرق من دون تاريخه الآخر مع الشمال. فوقع للحركة الشعبية خبر تجدد الرق في السودان في الثمانينات الثانية من السماء. فترافق ذيوعه مع انتقالها إلى أمريكا التي لا تروج قضية فيها مثل قضية داخلها رق. فحلبت الحركة الخبر فغلب في ممارستها الاحتقان بالتاريخ لا الفعل فيه. وتلبست الوصاية على “شماليو الحركة الشعبية”، في عنوان لكتاب للصحافي ضياء الدين البلال، الذين جاؤوا إلى قضيته في الثمانيات تكفيراً عن خطيئة أجدادهم إذا تجاوزنا استظلالهم بالحركة القومية الجنوبية الفتية عوضاً عما اصابهم من ضعف سياسي في ميدان السياسة في الشمال ألجأهم إلى غيرهم.
سنتناول وصاية شمالي الحركة وصفوة القوميين الجنوبيين في حلقتنا الأخيرة القادمة. وفي طلبنا لفهم أفضل للوصاية التي خيمت على الجنوب طويلاً نستأنس بمن خرج لتفكيك هذه الوصاية وهو دوقلاس جونسون المختص بتاريخ جنوب السودان في مقال له في 1981.
كانت عقيدة أن الجنوب عالة على التاريخ، مفعول به لا فاعل، ممّا استوجب الوصاية عليه، موضوعاً لمقالة باكرة (1981) لدوقلاس جونسون المؤرِّخ المختص بتاريخ جنوب السودان. وهي مقالة نبِيهة وربما كانت الأولى في تفكيك هذه العقيدة الوصائية على الجنوب. وجاء جونسون إلى كتابة مقاله بعد اطِّلاعه بصورة غير مسبوقة على وثائق الإدارة الاستعمارية في دواوين الدولة بالجنوب. وهي الوثائق التي جرى تكليفه بتبويبها وأرشفتها بواسطة الحكومة الإقليمية للجنوب في السبعينات من القرن الماضي. كما وفَّرت له الإقامة بالجنوب القيام بجمع ميداني لتراث الجنوب الشفاهي. وكتب من جرَّائه مؤلَّفه القَيِّم “أنبياء النوير” (1994).
ويبدأ جونسون بردِّ هذه النظرة الوصائية على الجنوب إلى جهل مؤرِّخيه بتاريخ شعوبه ومَكرِهم. فاستهان هؤلاء المؤرخون بتاريخ الجنوب، فضلَّوا. فواضع سياسة الجنوب، هارولد ماكمايكل، المؤرخ-الإداري، نفسه قال أنه حتى لو كان للجنوب تاريخ فليس ثمَّة جدوى من معرفته. وعليه فإن ما بيدنا عن تاريخ الجنوب هي كتابات اقتصرت على وقوعه تحت الاستعمار التركي أو المهدوي أو الإنجليزي. فلم تقُم في الجنوب مدرسة لكتابة تاريخه من الروايات الشفوية كما في بقية أفريقيا بالنظر إلى أنه كان في حرب أهلية متصلة ومتقطعة طاردة لمؤرِّخي العمل الميداني. وبفضل الروايات الشفوية، كمصدر مبتكَر لكتابة تاريخ أفريقيا، وقف المؤرخون على اتصال حقب تاريخ القارة. فلا حجة لمن قال إن تاريخها بدأ بحلول الاستعمار.
كما وفرت هذه الروايات مادة استخدمها المؤرخون لزلزلة الوثائق المكتوبة من قبل الأوربيين وتجريعها المساءلة والمؤاخذة. ولما غاب ماضي الجنوب تسيّدت فيه الموضوعات القريبة في التاريخ مثل تجارة الرقيق، والمنافسة الدبلوماسية الدولية عليه، والتبشير، وسياسة الجنوب للاستعماريين الإنجليز. وعليه لم تنل التواريخ الباطنة للمجتمعات المحلية حظاً مناسباً من الدراسة. ولانحجاب هذا التاريخ عنا اكتنفت تاريخ الجنوب أحكام قِيَمية كامنة غبــَّشت معرفتنا به بدلاً عن التنوير به. فاقتصر مؤرِّخوه على التشديد على عزلته الإقليمية، وبدائيته الاجتماعية، ومقاومته للغزاة بما دمَّر مجتمعاته. فالمؤرِّخون يصوِّرون هؤلاء المــُغيرين، كشَبحِ حلّ بالجنوب على حين غرة فغلب عليه لغرارة أهله الذين لم يستعدوا للغزاة فخربوا دورهم تخريباً.
وخضع الجنوب ومجتمعاته بالنتيجة إلى مقياس درجة استعداده للتعامل مع هؤلاء الغزاة وقدرته على التأثير فيهم. ولم يصمد الجنوب لهذا المقياس. فالجنوبيون، كما صوَّرهم المؤرخون، لم يكن لهم تأثير يذكر على الوقائع التي اكتنفتهم في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد كانوا “فرَّاجة” على بِنيتهم السياسية وهي تتفكك تحت ثِقل الغُزاة ثم يعاد تركيبها وفق مشيئة نفس الغزاة. ورأى جونسون في مثل هذا التاريخ المستكرَه نوعاً من الغرور الثقافي سوَّغ مؤرِّخوه لجزافيته بتضامنهم مع محنة الجنوب الراهنة خاصة وقد كتب معظمهم في فترات الحرب الأهلية في السودان.
وقال إن هذه التصوير لتاريخ الجنوب كقاصرٍ بشري، بما انطوى عليه من غرور، يحرمنا من العلم الأوثق بتاريخ مجتمعاته الباطني. فالزعم أن بلداً في سعة الجنوب عاش في فراغ تاريخي حتى تقحّمته القوى المستعمرة ليكشف عن وجهة نظر الكاتب أكثر من حقيقة تاريخ الجنوب. ويلجأ الكُتاب إلى وصف المجتمع الجنوبي ب “التقليدي” التي تشي بتعذُّر حصولهم على مصادر وثيقة يراجعون بها سلبيتهم حيال تاريخ الجنوب. وللحصول على هذه المصادر المستجدَّة زكَى جونسون جمع الروايات الشفوية وتحليلها لدراسة تطورات المجتمع المحلي الجنوبي. وهذا شغل لم ننشط فيه بالنظر إلى الحرب الأهلية الممتدة بالمنطقة كما ذكرنا. كما زكّى أيضاً لهذا الغرض العناية بدراسة الوثائق المحفوظة في الجنوب. فالوثائق عن الجنوب المحفوظة بدار الوثائق المركزية بالخرطوم أقلّ نفعاً لغرضنا لأنها مجرد تلخيص لتلك المحفوظة بالجنوب لفائدة الإداريين المركزيين بالخرطوم ممن لا وقت عندهم لقراءة النص المحفوظ في الجنوب على علاته.
ليس تاريخ الجنوب في القرن التاسع عشر محضَ فوضى إلا بما أراده له الإداريون المستعمرون. فهم قد نُـشِّــــئوا على العزة ب “النقاء القبلي”، الذي هو القاعدة البشرية عندهم، بينما الخلطة هي الاستثناء. فخلطة الثقافات عندهم معناها أن الجماعة المعنية خلوَّا من المناعة لمقاومة الأثر الأجنبي، ودليل على تهافت البنية القبلية الصافية. ولهذا رأوا في الحراك الاجتماعي للقرن التاسع عشر، الذي اختلطت فيه الجماعات الجنوبية اختلاطاً عظيماً، ميسماً للفوضى لا ميسماً لمرونة البنيات القبلية التي لا تقيم لـ”النقاء القبلي” الوزن الذي أقامه إداريو بدايات القرن العشرين من الإنجليز. فقد وصف المؤرخ ج ن ساندرسون الجنوب، على بينة كتاب سانتاندريا عن تاريخ قبائل بحر الغزال، بأنه عاش حالة من الفطرة الهوبسية. والهوبسية مأخوذة من عالم السياسة الإنجليزي توماس هوبس (1588-1679). وعنى بهذه الفكرة الفوضى والهرج والحرب التي تسود مجتمع البشر الأنانيين بالطبيعة ما لم يقم بينهم سلطان عضوض يؤمَر فيُطاع، وهذا إسراف. فسانتاندريا لم يزد عن وصف حياة قبائل صغيرة في بحر الغزال الغربية لا تبيح لساندرسون التعميم منها على كل شعوب الجنوب. وواصل جونسون تمييزه بين تاريخ الجنوب كما لم يكتب بعد، وبين صورته في كتابات الإداريين في “مجلة السودان في رسائل ومدونات” وغيرها. وحذَّر من أن الوثائق الإدارية قاصرة حين يخرج الأمر من الشأن الإداري، أو الضبط الإداري، إلى شاغل الروح ودوافع القادة الجنوبيين لمقاصدهم.
من الجهة الأخرى، فتاريخ الجنوب، طالما كتبه أجانب عنه مستعمِرون غير محايدين أو شغوفين بالمعرفة من حيث هي، لا يمكن فصله عن تاريخ هؤلاء المؤرِّخين أنفسهم. فمن رأي إيفانز برتشارد، الأنثروبولوجي المعروف وصاحب “كتاب النوير” (1940)، أن الدراسة الأنثروبولوجية للإدارة بين الأهالي تتضمن أكثر من مجرد دراسة نظم أولئك الأهالي. فمن المهم دراسة النظم البريطانية الاجتماعية ومعاييرها الأخلاقية. وأضاف برتشارد أنه لكي نفهم كيف يُدار الأهالي وجب أن ندرس القيم الإنجليزية التي عبرت عن نفسها خلال تلك الإدارة والعواطف التي أخذت بمقودها. فتاريخ الجنوب تَضَمّن تاريخ الإنجليز طالما خضع لهم وجرَت إدارته بحسب مفهوماتهم.
استفاد جونسون من اطلاعه على تاريخ الجنوب عن طريق رواياته الشفاهية والأرشيف المحلي للسجل الاستعماري ليقرر أن الجنوب ليس قاصراً أو عالة على تاريخ من اقتحموه. ووفَّرت له هذه القراءة، أن يزيل الظن بعُزلة الجنوب التي دمغه بها المؤرخون. فلم يكن “الشمال” أو “الجنوب” حالتين مفروزتين بدقة قبل أن نجعل منهما حقائق سياسية في زمن لاحق. كما لم يحُلْ حتى السَّدِّ، ستار الحشائش الذي هو الحد الفاصل بين الجنوب والشمال والذي عوَّق مسير البواخر والجند للجنوب، دون خـَلطة أهل الشمال والجنوب وترحُّل اللغات والثقافات بينهما. فقد سيطر النيليون الجنوبيون مثل الدينكا والشلك على النيل لمدة ثلاثة قرون. ووفَّرت لهم سيطرتهم هذه الاختلاط بالعرب والنوبة. فوقف الدينكا في وجه تقدُّم دولة سنار ولكنهم عَمِلوا أيضاً في جيشها في وقت آخر. وخلُص جونسون، من عرض المزيد من هذه الاحتكاكات بين الجنوب والشمال؛ إلى أن أقساماً مهمة من الجنوب، كانت على صلة بالعالم الخارجي قبل احتلال الأتراك له. وعليه فللجنوب خبرة للتأقلم مع التأثيرات الخارجية نَمَّاها قبل قدوم الأتراك إليه في القرن التاسع عشر. ولم يمنع حتى جور الترك المجتمعات الجنوبية من مواصلة التثاقف خلال ذلك القرن. وحتى في القرن العشرين تثاقفت الجماعات الجنوبية مع بعضها ومع الآخرين وهي رهن العزلة التي فرضتها سياسة المناطق المقفولة. وهذه السعة الجنوبية للتثاقف هي ما ضاع منـَّا لانحصار الدارسين في تاريخ سياسي ضيق للجنوب. فقد أعماهم هذا التاريخ المبتسر عن نقاط القوة الجوهرية للنظم الاجتماعية الجنوبية التي زعموا أنها قد تهاوت مثلها مثل دياناتهم التي صرفوها ك “تقليدية” أو “قبلية”. ومنع التركيز على الفترة الاستعمارية المؤرخين من التعرف على التيارات العريضة في تاريخ الجنوب التي لها مساس كبير بتاريخ بقية السودان.
رأينا كيف هدم جونسون بمقاله جُملة الحجج التي سوّغت لوصاية البريطانيين على شعب الجنوب. فتاريخ الجنوب مَوضوع ولواضعيه غرضٌ هو البرهنة على فرضية أن الجنوبيين عاجزين عن مواجهة تحديات العالم الحديث. فَـــ”عقيدة” أن الجنوب إما كيان متهافت سيرتد إلى بدائيته الأولى متى فرط الوصي فيه، أو أنه عقيم لا حيلة له في التعاطي مع التغيير المحمول إليه من خارجه، قادت، ولا شك، إلى أخطاءٍ كبيرة خلال الحرب الأهلية. فمتى رفضُ الوطنيون الجنوبيون بعض السياسات الخرطومية صرفت الخرطوم موقفهم إلى وسوسة أتتهم من الخارج لا كأصحاب حق في السودان. وشاعت بين الوطنيين الشماليين عبارة “أولاد الكنائس” للقول بأن الجنوبيين طبل فارغٌ يدوي بإيقاع الضارب عليه. وهذه مصادرة لـِمَلـَكة الجنوبيين في الاحتجاج أصالةً عن أنفسهم، لا وكالة عن أحد.
وكانت دعوة عبد الخالق للزمالة الجنوبية تحريراً للجنوب من الماضي كغبينة إلى التاريخ كمخاطرة لا للَطْم بل للطِام في الأغنية المعروفة.

مقالات ذات صلة