*جوازات مُزورة، تواكيل زائفة، ويمين كاذب، هجمة ثلاثية تضرب ملكية العقارات في السودان ​بقلم: مهندس محمد صلاح الخبير والمُثمن العقاري*

​يشهد سوق العقارات السوداني أزمة ثقة غير مسبوقة، لم تعد مجرد تلاعب فردي، بل تحولت إلى هجمة ثلاثية الأبعاد على حق الملكية. المحتالون الآن لا يعتمدون فقط على اليمين الكاذب وتزوير الوثائق الشخصية، بل أضافوا إلى ترسانتهم سلاحاً فتاكاً، تزوير تواكيل المحامين والوكالات القانونية.
​في ظل الفوضى وتضرر السجلات، أصبحت هذه الوكالات المزورة بمثابة (صَك بَراءة) للمحتال لـ (تخريج) أي عقار يقع تحت يده، حتى لو كان المالك الأصلي خارج البلاد.

​تزوير “التواكيل”
بوابة الاحتيال الاحترافية

​الوكالة القانونية (التوكيل) تمنح المحتال غطاءً رسمياً للقيام بجميع الإجراءات نيابةً عن المالك، بما في ذلك طلب (شهادة بحث بغرض البيع)، التوقيع على العقود، واستلام قيمة العقار.

​كيف يتم استغلال التواكيل في دورة الاحتيال الثلاثية؟

​تزوير الهوية أولاً
يتم إنشاء جواز سفر أو بطاقة قومية مزورة تحمل بيانات المالك الأصلي وصورة المحتال أو شريكه.

​تزوير التوكيل
باستخدام الهوية المزورة، يتم إصدار توكيل خاص أو عام مزور (الذي قد يكون شريكاً في الجريمة أو محتالاً منتحلاً لصفة محامٍ)، ويمنحه هذا التوكيل سلطة بيع العقار. يتم توثيق هذه الوكالة بختم وتوقيع مُقلدين.

​إتمام البيع بصفة “الوكيل”
يذهب “الوكيل” المزور إلى مكتب التسجيلات. هنا لا يحتاج سوء حلف اليمين وإحضار إقراراً مشفوعاً باليمين، ثم يقدم الوكالة المزورة التي هي بمثابة (سُلطة مطلقة) تتيح له التصرف الفوري بالعقار، دون الحاجة لتحقق إضافي من المالك الأصلي.

​تسهيل الإجراءات
هذه التواكيل تُسرّع من إتمام عملية البيع والتنازل، ويصبح العقار (خارج الحيازة القانونية) للمالك الحقيقي في وقت قياسي.
​إن هذا التكتيك هو الأخطر، لأنه ينقل الاحتيال من صفة المنتحل إلى صفة الوكيل القانوني، مما يعزز مصداقية العملية أمام المشترين حسني النية والجهات الرسمية.

تصعيد الخطر
التزوير يصل إلى قاعة المحكمة (الإعلامات الشرعية)

​الأمر لم يعد محصوراً في تسجيلات الأراضي وحدها، بل وصل التلاعب إلى الجهات القضائية وقاعات المحكمة. أحد أخطر صور الاحتيال المتصاعدة هو تزوير الإعلامات الشرعية للمتوفين، التي تحدد الورثة وحصصهم في العقار.

​كيف يتم استغلال القضاء في دورة الاحتيال الثلاثية؟

​استهداف عقارات المتوفين
يقوم المحتالون بالتحايل لتضمين أسمائهم أو أسماء شركائهم في الإعلامات الشرعية كـ (ورثة زائفين) للمالك الأصلي للعقار، بالاعتماد على وثائق مزورة تغيب عنها المراجعة الدقيقة.
​التنازل أمام القاضي
يتم إحضار “ورثة” مزورين يقومون بـ التنازل أمام القاضي عن حصصهم في العقار للمحتال الرئيسي أو للمشتري الذي يتم الترتيب معه مسبقاً.

​شرعنة السرقة
هذا التنازل، الموقع والمصدق عليه أمام جهة قضائية، يمنح المحتال (غطاءً شرعياً وقانونياً لا يقبل الطعن بسهولة)، ويصبح العقار جاهزاً لـ (تخريجه) وتغيير اسمه في السجلات بكل سهولة ويسر.

​هذا التكتيك هو الأشد خطراً، لأنه يوظف هيبة القضاء في عملية الاحتيال، ما يُعقد سُبل استرداد الحقوق على الورثة الحقيقيين.

​إعادة بناء “عمود الثقة” بالإلزام
​إن الروتين المتبع حالياً في التعامل مع الوكالات والإقرارات لم يعد كافياً، بل هو (ثغرة كبرى) يجب إغلاقها فوراً. يجب أن تتحول الإجراءات من الاعتماد على (الورق) إلى الاعتماد على (التحقق الرقمي والحيوي).

​نظام توكيل مركزي مُؤمّن
يجب وضع نظام إلكتروني مركزي يُلزم المحامين أو الجهات الموكلة بتسجيل الوكالات فوراً في قاعدة بيانات يمكن لمكاتب تسجيل الأراضي التحقق منها مباشرةً. أي وكالة لا تظهر في هذا النظام تُعتبر باطلة تلقائياً.

​التحقق الحيوي (البيومتري)
يجب أن يُلزم طالب الخدمة، سواء كان المالك الأصلي أو وكيله، بتقديم البصمة الحيوية في مكتب تسجيل الأراضي، وربطها بقاعدة بيانات الهوية (السجل المدني والجوازات) للتحقق الفوري من هويته وشرعية وكالته.

​التحري الميداني عن “الحيازة”
يجب ربط كل معاملة عقارية، خاصة تلك التي تتم عبر وكالات أو إقرارات، بـ تحري ميداني عاجل وإلزامي للتأكد من وضع يد المالك الأصلي الفعلي على العقار.

​تفعيل الرادع
هذه الجرائم تستهدف استقرار الدولة ​لذلك يعتبر تزوير التواكيل والوثائق هو اعتداء مُنظم على المجتمع والاقتصاد. يجب تفعيل أشد العقوبات الرادعة ضد كل من يُدان بتزوير أي وثيقة شخصية أو قانونية، ويجب معاملة هذه الجرائم على أنها (خطر يهدد الأمن القومي) للبلاد.

في الختام، إن حق الملكية في السودان يواجه تهديداً ثلاثياً يتطلب استجابة حازمة وفورية. لقد حذرنا في مقالات سابقة من أن الإفراط في الاعتماد على الإقرارات سيمهد الطريق لمثل هذه الجرائم، وها نحن نعود اليوم لنكرر التحذير ذاته مع تزايد وتطور هذه الجرائم لتشمل تزوير الهوية والوكالات. إن إصلاح هذه الثغرات الإجرائية هو مفتاح استعادة الثقة والاستقرار الاقتصادي في البلاد، قبل أن يتمكن المحتالون من (أكل حقوق الناس) بشكل لا يمكن تداركه.

مقالات ذات صلة