منذ التغيير في ٢٠١٩م، لم تكن هذه المرة الأولى التي تسعى فيها الحكومة إلى إعادة هندسة العلاقة بين السلطة والرأي العام، في إشارة إلى أن الكلمة الحرة تُشكل مصدر قلق.
في العام ٢٠٢٠م أجازت حكومة رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” تعديلات قانون جرائم المعلوماتية، القانون المعدّل شدّد العقوبات ووسّع تعريف الجرائم الإلكترونية ليشمل “الإضرار بالأمن العام أو الاقتصاد الوطني”، وهي عبارات فضفاضة فتحت الباب واسعاً لتأويلات قد تُستخدم لتكميم الافواه وملاحقة الصحفيين والناشطين. ومع أن الحكومة بررت الخطوة بأنها تستهدف الحد من “الفوضى الإلكترونية” و”التحريض”،إلا أن التطبيق العملي أثبت أن الحدود بين حرية التعبير والجريمة أصبحت ضبابية.
وفي العام ٢٠٢٥م، والحرب المدمرة مستمرة،بينما يئنّ المواطن السوداني تحت وطأة الغلاء الفاحش وانهيار الخدمات وتآكل قيمة الجنيه، كان (الأمل)معقوداً على أن يخرج مجلس الوزراء بقرارات تخفف عن الناس ضيق العيش وتواجه تغوّل رجال الأعمال والمحتكرين. لكن ما حدث امس جاء صادماً ومخيباً للرجاء، إذ انصرف المجلس عن معركة الخبز والدواء، ووجّه اهتمامه إلى معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة تكميم الأفواه.
التعديلات التي أُجيزت على قانون جرائم المعلوماتية تُقدَّم بواجهة براقة عنوانها “ضبط الفوضى الإلكترونية”، لكنها في جوهرها تُعيد إنتاج الخوف وتُضيّق مساحة الرأي العام. فبدلاً من أن يكون القانون أداة لحماية المجتمع من الاحتيال الإلكتروني والتضليل، سيتحوّل إلى سيف مسلّط على رقاب الصحفيين والناشطين والمواطنين الذين يجدون في الفضاء الرقمي متنفساً لقول الحقيقة.
إنّ سنّ مثل هذه القوانين في ظرف اقتصادي خانق يكشف أولويات مقلوبة؛ فالحكومة التي تعجز عن كبح الأسعار وضبط الأسواق ومحاربة الاحتكار، وجدت في الكلمة الحرة خطراً أكبر من جشع التجار ومن نزيف الذهب والموارد. باتت الرقابة على الرأي أسهل من الرقابة على الفساد، وملاحقة الناقد أيسر من ملاحقة من ينهب قوت الناس.
لقد خاض السودانيون عبر تاريخهم معارك طويلة من أجل أن تكون الكلمة سلاح الوعي لا جريمة يُعاقَب عليها. وها هم اليوم يواجهون محاولة جديدة لإسكاتهم بالقوانين المفصلة على مقاس السلطة، في حين أن الفضاء الحقيقي – اقتصاد البلاد ينهار دون تنظيم ولا مساءلة.
إنّ أخطر ما في الأمر أنّ هذه التعديلات لا تمسّ فقط حرية التعبير، بل تمسّ جوهر العلاقة بين الدولة ومواطنيها. فحين تتحول الحكومة من حام للشعب إلى رقيب عليه، ومن سلطة مسؤولة إلى سلطة خائفة من النقد، فإنها تكون قد فقدت البوصلة الأخلاقية التي تُبنى عليها شرعية الحكم.
السودان اليوم لا يحتاج إلى قانون جديد يُخيف الناس، بل إلى إرادة جديدة تُنقذهم من الجوع، وتعيد للدولة عقلها الاقتصادي قبل أن تفقد صوتها الوطني.
محبتي واحترامي
https://www.facebook.com/share/p/1ErYdiydBX/