*دارفور المحترقة: العمد والنظار بين الخيانة والولاء الدموي*

في دارفور، تبدلت صورة العمدة والناظر من حماة للقبائل إلى أدوات تنفيذية في آلة قتل منظمة. تسريبات وشهادات من داخل القرى ومن لاجئين في مصر وأوغندا تشير إلى تورط عدد من القيادات التقليدية في استدعاء شباب القبائل من الخارج للزج بهم في محرقة الميليشيا. من بين هؤلاء، تتكرر الأسماء: يوسف علي الغالي ودبكة وغيرهم ، الذين لم يكتفوا بتسليم ابناء قبائلهم ، بل نسجوا شبكة كاملة من الاتصالات، الوعود الزائفة، والتهديدات المباشرة لضمان تنفيذ المخطط
الخيانة هنا ليست مجرد قرار عابر، بل عقلية منظمة: كل استدعاء يخضع لبروتوكولات، من الاتصال والتحضير إلى الترتيبات اللوجستية، مرورًا بإيهام الشباب بأنهم ذاهبون للعمل أو لحماية مستقبلهم، قبل أن يجدوا أنفسهم ضحايا في محرقة ممنهجة. الناجون يروون تفاصيل دقيقة: أسماء من نسق مواقع التجمّع، أرقام هواتف استخدمت للتنسيق، ووعودًا كاذبة تم تقديمها لضمان الطاعة، كل ذلك يكشف عمق التخطيط ما يزيد الكارثة وضوحًا هو رفاهية أولاد العمد وزوجاتهم. يعيش هؤلاء في حياة رغده، مدارس خاصة، سفر، عقارات واستثمارات محلية، كل ذلك على حساب دماء من سلموا. هذا الثراء الدموي ليس مجرد انفصال عن الواقع؛ إنه انعكاس مباشر لاستغلال النفوذ التقليدي وتحويله إلى تجارة دماء. في الوقت نفسه، صمت أولياء الأمور الذين أرسلوا أبنائهم، أو من لديهم القدرة على حمايتهم، يُضخم الجريمة ويجعلهم شركاء غير مرئيين، يراقبون الدماء دون أن يحركوا ساكنًا، ويفتحون المجال للعمد والنظار للاستمرار في مخططاتهم دون أي مساءلة.
الولاء الأعمى لحميدتي حوّل هؤلاء العمد والنظار إلى مدمنين على الدم، أي دم يُقدّم يُحتفى به، حتى لو كان من أهلهم. بعضهم اختلطت دمائه العائلية بما ما يُسموها بـ«دولة 56»، لتصبح القربى والإنسانية غير ذات قيمة، وتقاس كل قيمة بمدى ما تدرّه من منافع أو حماية. تحت هذا القمع الرمزي صارت العلاقات الأسرية تُعاد رسمها: ابن يُستدعى من الخارج ليُسلَّم تحت حجة «الحماية» تتحوّل إلى فخ، وأبٌ يراهن على بقاء مكانه ومكاسبه بدل حماية جسد الأقرباء. الصمت هنا ليس براءة؛ إنه عنصر فعال في استمرار منظومة القتل، شريك غير مرئي في الجريمة
التحليل النفسي والاجتماعي لهذه الخيانة يبيّن أبعادًا أكثر عمقًا: السلطة التقليدية، القائمة على الثقة والاحترام، انهارت، والصمت أصبح سياسة بقاء فردية تتحوّل إلى وباء اجتماعي؛ كل من يغلق عينه أمام الحقيقة يشجع الآخر على الصمت، ويغذّي الشك والعدمية داخل النسيج القبلي. الفجوة بين من باع ومن بقي بلا امتيازات تتسع، وتولد طبقات اجتماعية جديدة على أطلال العدالة.
المشهد الأكثر رعبًا أن بعض الناجين يروون كيف استُخدمت وسائل التواصل لنقل الوعود الكاذبة، وكيف تم توريط الشباب في نقاط تسليم مسلحة. هذه التفاصيل التقنية مهمة لإثبات أن الجريمة معقدة ومتعددة الوسائل، وليست مجرد قمع تقليدي.

الأثر الاجتماعي طويل المدى: فقدان الثقة بالسلطة التقليدية، تمزيق العلاقات الأسرية، غرس شعور دائم بالغبن والظلم، وانتشار ثقافة الصمت أو التواطؤ ضمن المجتمع، مما يجعل إعادة بناء النسيج الاجتماعي صعبة جدًا دون محاسبة واضحة وشفافة.
المفارقة الأكثر قسوة: أولاد العمد وزوجاتهم يواصلون حياتهم في الخارج، بينما دماء الشباب الذين تم تسليمهم تُروى بها الأرض، وتظل المجتمعات المحلية تعاني من فقدان الأمان، والذاكرة الشعبية تحفظ كل اسم وكل وعد وكل رحلة نقل انتهت بموت أو تهجير. التاريخ سيحفظ أسماء من تورطوا، مثل يوسف علي الغالي ودبكة، وستظل رفاهيتهم اليوم شهادة حية على عمق الخيانة والانحراف الأخلاقي
الاستنتاج الواضح أن الأزمة في دارفور لم تعد مجرد نتيجة لحروب أو فوضى عسكرية، بل أصبحت أزمة أخلاقية واجتماعية بنيوية: تحويل النفوذ التقليدي إلى آلة قتل، الولاء الأعمى للميليشيا، الصمت القاتل لذوي الضحايا، والرفاهية المبنية على دماء الأبرياء كلها عوامل تجعل من هؤلاء العمد والنظار الخطر الحقيقي على شباب القبائل وعلى المجتمع كله. مواجهة هذه الحقيقة تتطلب توثيق كل عملية استدعاء، حماية الشهود، فتح تحقيقات جنائية محترفة، وإعادة صياغة السلطة التقليدية بحيث لا تتحول مرة أخرى إلى أداة للقتل والاستغلال.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole