قراءة في رواية ” روح النهر العتيق ” لليلى أبو العلا
نسخة جديدة مزيدة ومنقحة لمقال سابق
د. خالد محمد فرح
Khaldoon90@hotmail.com
رواية River Spirit أو ” روح النهر العتيق ” كما جاء عنوانها هكذا في ترجمتها الى اللغة العربية التي أنجزها البروفيسور بدر الدين الهاشمي، وراجع الترجمة كاتب هذه السطور، هي أحدث عمل أدبي ظهوراً لليلى أبو العلا، هذه الروائية السودانية ذائعة الصيت، التي تكتب باللغة الانجليزية، و أول من فاز بجائزة ” كين ” البريطانية للرواية الافريقية المكتوبة باللغة الانجليزية، والتي تُرجمت رواياتها ومجموعاتها القصصية حتى الآن، إلى حوالي خمسة عشر لغة عالمية بما في ذلك اللغة العربية.
صدرت رواية ” روح النهر العتيق ” او River Spirit كما هو عنوانها الاصلي، في مطلع شهر مارس من العام المنصرم 2023م، عن دار الساقي اللندنية بترتيب مع دار Grove Atlantic الأمريكية، التي هي الناشر الأساسي لأعمال ليلى أبو العلا، في 305 صفحة من القطع المتوسط.
تعرفت على ليلى ابو العلا كفاحاً، عندما التقيت بها لأول مرة بقاعة الصداقة بالخرطوم في شتاء عام 2015م على ما اعتقد، عندما جرى تكريمها بواسطة لجنة جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي في ذلك العام، رغم أننا قد تعاصرنا طلاباً بجامعة الخرطوم في النصف الاول من ثمانينيات القرن الماضي، ولكننا لم نكن نتعارف حينئذ، غالباً لأنها كانت تدرس الاحصاء بكلية الاقتصاد، بينما كنا نحن بكلية الآداب، وكنا نتقدم دفعتها بعام او عامين. ولله در صديقنا الشاعر سيف الدين عبد الحميد إذ يقول:
لم يكن بيننا لقاءٌ ولكن
جمعتنا مجامعُ التعليم !
ولقد سعدت جداً ببروز ليلى أبو العلا منذ بضعة عشر عاماً كروائية سودانية ذات موهبة عظيمة، نوهت بها الملاحق الادبية بكبريات الصحف العالمية، وخصوصاً في الفضاء الأنجلوسكسوني. وقد سبق لي أن نشرت من قبل، مقالين عن روايتيها ” مئذنة بريجيت بارك ” و ” كرم الأعداء ” على التوالي.
ثم إننا صرنا أصدقاء إسفيريين عبر تطبيق فيسبوك، وصرت من المداومين على الاطلاع بانتظام على مقالاتها وجميع منشوراتها، بما في ذلك سائر أنشطتها الأدبية والثقافية، ومن بينها بطبيعة الحال، احتفاؤها الواضح بصدور روايتها هذه التي نحن بصددها الآن، وحرصها الظاهر على الترويج لها عن طريق نشر مقتطفات عما نشر عنها في الصحافة الادبية العالمية، ومقاطع من تسجيلات لمقابلات أجريت معها حولها.
كل ذلك شوقني للاطلاع على هذه الرواية، فلم اصبر حتى تصل الى المكتبات حيث اقيم الان أو لا تصل، فاتصلت بفرع لمكتبه WHSmith الإنجليزية، فجلبت لي نسخة من الرواية من لندن في غضون أقل من اسبوع.
إنّ رواية ” روح النهر العتيق “، هي في الواقع رواية تاريخية متخيلة، تحكي قصة حب ظلت تنمو وتتوالى فصولها على نسق تصاعدي، بالتواشج مع جملة من الاحداث والمواقف التاريخية التي شهدها سودان أواخر عهد الحكم التركي المصري، وطوال فترة الثورة والدولة المهدية 1881 – 1898م، وحتى غروب شمس هذه الاخيرة، بسحق مدفع المكسيم المبير، وقذائف البوارج النهرية الرهيبة، لجيش الخليفة عبد الله التعايشي في معركة ” كرري ” غير المتكافئة، التي وقعت في يوم الجمعة الثاني من شهر سبتمبر عام 1898م، ايذاناً ببدء عهد الاحتلال الثنائي البريطاني المصري للسودان.
تجمع قصة الحب تلك بين شاب تاجر في مقتبل العمر ، من شمال السودان اسمه ” ياسين “، وفتاة صغيرة في الحادية عشرة فقط من عمرها عندما تعرفت عليه لأول مرة، تنتمي الى احدى القبائل النيلية القاطنة في ديار الشلك بنواحي ملكال، كان اسمها الاصلي ” أكواني ” ثم تم تغييره الى ” زمزم ” عندما انتقلت للعيش في شمال السودان هي وشقيقها الصغير ” بول ” الذي صار اسمه ” اسحاق “.
كان ياسين – كما كان يفعل أبوه من قبل – يتردد على قرية أكواني ببضاعته المجلوبة من الشمال في أواخر سنوات العهد التركي بالسودان 1821 – 1885م ، وينزل ضيفا عند والدها في منزلهم، وكانت تربطه بوالدها علاقة صداقة وتبادل تجاري حيث كان والدها يستضيفه ويكرمه، ويزوده بمنتجات المنطقة وخصوصا الصمغ العربي، بينما يجلب له ياسين مختلف السلع الاستهلاكية وغيرها من مدن الشمال. ومن هنا نشأت علاقة محبة عميقة، وتعلق واضح من قبل أكواني وشقيقها الطفل الصغير بالتاجر ياسين، الذي كان يبادلهم المحبة الصادقة، كما كان يكن احتراما وتقديرا شديداً لوالدهما.
بدأ حباً طفولياً إخوانياً بريئا من قبل أكواني ، كما بدأ ايضا حباً صبيانياً اخوانياً بريئاً من جانب ياسين الشاب المهذب وعميق التدين ، والذي يتمتع بحس إنساني وأخلاقي شفيف، عمق من صدق وفائه لأسرة اكواني التي احتضنته في موطنها البعيد عن موطنه، وبيئتها المختلفة عن بيئته، ثم حدث ما حدث بعد ذلك، وخصوصاً فيما يلي اكواني التي أحبت ياسين حباً جارفاً ملك عليها أقطار نفسها، بعد أن كبرت وشبت عن الطوق. ثم صحا حب ياسين الصبياني والاخواني القديم لها من غفوته في طور جديد، تجاوباً بكل تأكيد مع ما أحس به ياسين غريزياً، من انجذابها الانثوي نحوه كرجل.
تبدو أكواني منذ طفولتها في الرواية، فتاة رومانسية في منتهى الحساسية ، والذكاء المفرط، ورقة المشاعر، ودقة الخيال. وآية ذلك مداومتها على الذهاب الى ضفة النيل الابيض الذي يمر عبر ديارهم، وترقد قريتهم الوادعة على ضفته، حيث كانت تناجي النهر وتبثه شجونها الطفولية واسرارها. والأبلغ من ذلك ، انها كانت تتخيل ان للنهر روحاً تناجيها هي الاخرى وتتجاوب معها. وهنا لعمري، نلمح ملمحاً من ملامح تبني ثيمة النهر كمصدر وحي ومنبع أسرار مشتركة، بين ليلى ابو العلا والطيب صالح. يتجلى ذلك على سبيل المثال في علاقة الراوي الصبي بالنيل في قصتي ” نخلة على الجدول ” و ” حفنة تمر ” لهذا الاخير على سبيل المثال.
وفي ذات يوم شنت مجموعة من صائدي الرقيق، غارة مفاجئة على قرية ” أكواني ” فقتلوا أباها ونهبوا ممتلكاته وأحرقوا منزله، وقتلوا عددا كبيرا من رجال القرية، واسترقوا عددا اخر من فتياتها وفتياتها قسرا. فما كان من ياسين الا أن قام بواجبه تجاه الاسرة التي أوته على الوجه المطلوب، فحمل اكواني وشقيقها بول معه الى مدينة الابيض وعهد بهما الى شقيقته الكبرى حليمة، فربتهما كمثل ابنائها تماما ، وادخلتهما الاسلام ، وغيرت اسميهما الى زمزم واسحاق على التوالي.
ومن ثم تتوالى فصول الرواية تباعا مع أواخر سني العهد التركي المصري، التي شهدت إرهاصات ظهور الامام محمد احمد المهدي ودعوته. وفي هذه الاثناء ، يسافر ياسين للدراسة بالأزهر الشريف، وتنتقل اكواني او زمزم للعمل خادمة ببيت مدير المديرية التركي في الأبيض ، في خضم فترة عصيبة انتهت بحصار الابيض بواسطة انصار المهدي، حتى اضطرت المدينة للتسليم له ، وصار نصيب مديرها التركي محمد سعيد جراب الفول الاعدام ضربا بالسيف.
تتألف فصول الرواية من لوحات قلمية متعاقبة، تصور شخصيات ومواقف شخوصها السبعة، وأوضاعهم خلال زمن الرواية، وخصوصاً بإزاء حدثها الأكبر، ألا وهو اندلاع الثورة المهدية، وما تلاها من أحداث مُزلزلة على الصعيدين الشخصي والعام، بمن فيهم ياسين وبعض افراد اسرته الذين توزعوا في ولاءاتهم ما بين ثوار وفلول. وبالطبع أكواني، التي لم يبد عليها اي اهتمام خاص، أو مبالاة ملحوظة بما يجري حولها من الحقب تركية كانت او مهدية، ولا بتصاريف الاقدار التي رفعت أقواما وحطّت آخرين، بما في ذلك ما انطوت عليه من محن وأهوال فظيعة، طالتها هي نفسها وأسرتها ، ومسقط رأسها ومسرح طفولتها بصورة مباشرة، وإنما كانت معنية فقط بالأحرى بحبها لياسين، وتحت كل الظروف. وهنالك من شخوص الرواية، شخص آخر يدعى موسى، وهو رجل مقاتل انصاري صميم، كان سكيراً عربيداً في شبابه، وفاتكاً متمرداً مخوف الجانب، ولكنه تاب واهتدى، وآمن بالمهدي ودعوته أصدق إيمان، وصار من أخلص أعوانه المقربين، الذين يعهد اليهم بالمهام السرية والخطيرة، بينما تقلبت سفينة الحياة بأكواني في مجراها الصاخب، فتنقلت في الاسترقاق من سيد لسيد، وزاولت مختلف المهن، ولكن قلبها المخلص ظل مقيما على حبه القديم لياسين فقط، رغم انه تزوج بمصر امرأه مصرية، رفضت المجيء معه الى السودان، ثم تزوج فتاة من عائلة الشيخ الضرير المرموقة بتوتي، التي انجبت له ولدا أسماه ” رستم ” ، كدلالة على انحيازه للإدارة التركية وحلفائها المحليين ، وعلى رأسهم نفر من المشايخ والعلماء ، مثل الفكي الامين الضرير ، وموقفهم المناهض لمهدية المهدي ، وذلك بحكم العلم والثقافة الفقهية النصوصية التي تلقاها ياسين بمصر.
وتمضي بنا الرواية من خلال رسم ملامح تلك الشخوص، و خصائصهم الجسدية، ونزعاتهم النفسية، وسرد حكاية كل منهم ، وبيان وضعه من مجريات الاحداث ، مرورا بانتصارات المهدي في الجزيرة ابا وقدير والابيض وشيكان، وصولاً الى حصار الخرطوم وفتحها عنوة على أيدي انصاره في يوم 26 يناير 1885م ، الذي شهد محاولة موسى قتل ياسين – مع سبق الإصرار والترصّد – بضربة قاضية من سيفه البتار ، عقاباً له على موقفه المناوئ للمهدية ، ولكن الضربة لم تكن مميتة حقا ، فخبأه أهله في داخل حفرة، وادعوا أنه قد مات بالفعل، مما اضطر زوجته صالحة الى طلب الطلاق منه، لأنها قد علمت أنها سوف تزوج قسراً لرجل آخر من انصار النظام الجديد، بحسب القرار الذي صدر عشية سقوط الخرطوم في يد الانصار، وذلك حتى لا تقع في الاثم بزواج رجلين في وقت واحد، كما شهد مصرع غردون باشا ، احتمالاً على يد الانصاري موسى المذكور نفسه بحسب الرواية، ثم انتهاء بوفاة المهدي الفاجعة والمفاجئة بعد ستة اشهر فقط من ذلك التاريخ، لكي تبدأ بعدها فترة حكم الخليفة عبد الله، التي سوف تستمر حتى وصول حملة كتشنر على رأس جيش استعادة احتلال السودان في 2 سبتمبر 1898م. وقد كان من بين شهداء كرري: اسحق شقيق زمزم الذي كان اسمه ” بول “. وقد استشهد وهو عريس مخضب اليدين بالحناء، بعد ان زوجته حليمة شقيقة ياسين، صغرى بناتها التي حبلت منه قبل استشهاده.
وبعيد تماثل ياسين للشفاء، وبرضاء زوجته السابقة صالحة ومعرفتها، تزوج ياسين زمزم أو أكواني ، وهرب معها متخفياً الى أن وصلوا الى قريتها بالجنوب، لكي يكون بعيداً عن أعين أنصار الخليفة وقبضتهم، واستأنف حياته معها هناك ، وحمل معه ابنه رستم من زوجته صالحة، وبتدبير من هذه الاخيرة، لكي يعيش مع إخوته الذين أنجبتهم له أكواني.