أستاذنا الدكتور عثمان السيد والزمن!، هكذا بدأت قصتنا معه منذ أن كنا طلبة ثانويات في النصف الثاني من الثمانينيات، كان يعتب على الفنان إبراهيم عوض عندما يغني قصيدة الشاعر الرائع إبراهيم الرشيد (يا زمن):
يا زمن وقف شوية.
يا زمن أرحم شوية.
وأهدي لي لحظات هنية.
وبعدها شيل باقي عمري.
وشيل شبابي، شيل عينيا.
كان يقول إن الزمن لا يتوقف!، واللحظات لن تعود!، لذا كان يهتم بالوقت، ويقلق ويتوتر لحظات الانتظار، ويعاتب الشاعر إسماعيل خورشيد وهو يترجى محبوبته في أغنية صلاح محمد عيسى عندما غني: –
تعال بكرة…. أو بعد بكرة.
بس ما تنسى ميعادي.
فيستغرب كيف يؤجل هذا اللقاء؟، تعال بكرة! أو بعد بكرة! وكان بالإمكان أن يكون الآن؟ فالتأجيل يعني انتفاء وضعف الدافع للقاء.
هكذا هو الدكتور المفكر عثمان السيد محجوب المعلم والأستاذ الجامعي والكاتب والمؤلف والمؤرخ ورجل المجتمع، كان دوماً ينظر من زوايا خاصة به، وينقلها لطلبته، لذا تجد أثر عثمان السيد باقياً في كل من درسهم، وطريقة تفكيره كالبصمة لا تزول، ومتفردة، لا تُنتج مرة أخرى.
سأحاول أن أبد سلسلة مقالات عن أستاذنا الدكتور عثمان السيد محجوب، الذي كتب عن كثير من الرموز والشخصيات في عطبرة والسودان، بطريقة فيها كثير من نكران الذات، لذا كان لا بد منا أن نوثق لهذا الرجل الإنسان الذي خلط العلم بالتواضع، والمعرفة بالعطاء، والفكر بالتزام الذاتي، فكان ومازال نموذجاً وقدوة في السلوك الإنساني المتفرد القائم على الصدق والخير والنبل والتطلع للمعرفة ونشرها.
في حي (أم بكول) العريق بمدينة عطبرة ولد الدكتور عثمان السيد في 11/2/1944 ،و(أم بكول) الذي جاء اسمه من قرية (أم بكول) بمحلية مروي، مكان تتحلق حوله قصص من الإنسانية والتفرد والتميز، ويكفي أنه وفق آخر التقارير أن الأمية سجلت صفراً في هذا الحي ،وهناك شخصيات بارزة من هذه البقعة الجميلة شكلت تاريخ عطبرة والسودان، والتحق الطفل الصغير عثمان السيد بخلوة (النجاح) في هذا الحي العريق، والتي كانت تقع أمام منزل (كيال)، وما زال الدكتور عثمان وأقرانه يذكرون بالتقدير كله الشيخ عبد الحميد السيد الذي زرع فيهم حب العربية وكان المعلم الأول لهم قبل أن يلتحقوا بمدرسة الغربية الأولية التي تقع شمال مستشفى الشرطة بعطبرة وقد تأسست هذه المدرسة في العام 1910 وهي تحكي قصة التاريخ البازخ للعلم والمدارس بأم المدائن عطبرة، ومن الذين زاملوا أستاذنا الدكتور عثمان السيد في المرحلة الأولية منتصف ونهاية الخمسينيات الأساتذة الكرام عبد الوهاب أبو العلا عبد الرحمن (شاتوت) لاعب كرة القدم المتميز وأحد مؤسسي الكوكب بعطبرة، وعزالدين أحمد بابكر وأحمد موسى لاعب الأمير وغيرهم .
في العام 1958 انتقل الدكتور عثمان السيد إلى مدرسة العمال الوسطى بعطبرة وقد شيدها عمال السكة الحديد عام 1947 تطوعاً أثناء اضراب ال(33) يوماً، وهي تجسد إرادة مدينة عطبرة ، وأُطلق نداءً عبر هذا التوثيق لتعود لهذه المدارس أسماءها القديمة التي تعكس تطور المجتمع المدني في عطبرة، الذي تحمل باكراً عبء إنشاء المؤسسات التعليمية في تجربة فريدة وجديرة بالتوقف عندها ودراستها وبيان ملامحها للجيل الحالي، وهنا لا بد من ذكر فضل رجل الأعمال وأحد زعماء حي (أم بكول) التاجر (علي الحسن) وغيره من رجال عطبرة الذين تصدوا لهذا العمل، ويذكر الدكتور عثمان السيد بكل تقدير ناظر المدرسة في ذلكم الوقت الأستاذ حسن نوري من دنقلا والأستاذ جمال الشوش، والأستاذ السر عبد السلام، الذين كان لهم الفضل في التشكيل الأول لشخصية أستاذنا الدكتور عثمان السيد.
عند ملتقي نهر النيل العظيم مع نهر عطبرة، وفي أم المدارس عطبرة الثانوية القديمة، بدأ أستاذنا الدكتور عثمان السيد دراسة المرحلة الثانوية في العام 1962 وكانت تلكم المدرسة في ذلكم الحين جامعة لكل أبناء السودان يأتيها الطلبة من كل البقاع ،يقودها بحكمة المرحوم الأستاذ المتفرد عبد الرحمن عبد الله مدير المدرسة ، وقد تشرفت بإجراء عدة حوارات معه لصالح تلفزيون عطبرة نهاية التسعينيات، ومن مدرسي الدكتور عثمان السيد في هذه المرحلة، الأستاذ عبد الحميد طلسم (والد البلابل) اللاتي نشأن بوكير حياتهن في عطبرة، لذا جاء إحساس أغنية (قطار الشوق) لصديقنا الأستاذ الشاعرعلي محجوب عبد الرحمن بطعم السنوات الجميلة، ومدرسة عطبرة الثانوية، والأتبراوي ، ومن المدرسين أيضاً الأستاذ الفنان إبراهيم حسين ملاسي الذي أخرج أول فلم روائي سوداني (آمال وأحلام) لمنتجه رائد السينما السودانية الأستاذ الرشيد مهدي، وأستاذ اللغة العربية عبد الرحمن أبوحراز، والأستاذ محمد الطيب، والأستاذ نجيب المصري، ومجيب من مصر أيضاً، والبريطانيين ،تولي وليني في اللغة الإنجليزية ،وفي الفنون الأستاذ وداعة عابدين، والمسرحي والفنان الأستاذ المرحوم عمر الحميدي صاحب رواية (جزيرة العوض) الشهيرة.
إن هذه التشكيلة من المدرسين الماهرين والمتنوعي الجنسيات، تؤكد ريادة وتقدم التعليم في تلكم الفترة ويا ليتنا نستدعى تاريخنا الناصع بدلاً من الجري وراء النظريات الحديثة، والأساليب التعيلمية الجديدة التي لم تستطع إعطاء المخرج التعليمي مثل تلكم الفترة.
في مدرسة عطبرة الثانوية القديمة زامل أستاذنا الدكتور عثمان السيد محجوب العديد من الطلبة المتميزين الذين أصبحوا أسماء كبيرة في سماء الوطن منها، الأستاذ عوض أحمد رحمة (عوض فنون)، الشاعر إبراهيم سيد أحمد، عبد الوهاب أبو العلا، د.محمود السيد، محمد أبوزيد الجعلي، وغيرهم.
نقف عند هذه المحطة في هذا المقال الأول، على أن نواصل في الحلقة الثانية المشوار التعليمي لأستاذنا الدكتور عثمان السيد، لبيان مراحله التعليمية في جامعة الخرطوم ومعهد المعلمين العالي
ونلتقي إن شاء الله




