اعترف بأن الكتابة عن عبدالله محمد خير رهق يثقل بكاهل أيما كاتب او موثق مهما ااتلق حبر يراعه ببريق الإجادة واتسمت سياقاته بالقدرة على استنطاق الشخوص وسبر غور الإبداع في وجدان الشخوص…
لكنني يدفعني أمر أوحد أيقن بأنه يكفيني للولوج الى سوح هذا (النجيفي) وعوالمه المبهرة للأعين والقلوب، ألا وهي حب لأشعاره بل لعله عشق لو قدر لي أن أنثره لفاق زخمه دفق أمواه هذا النيل سليل الفراديس…
أمر آخر جعلني افعل ذلك وهو طلب من بعض الأحباب من زملاء المنبر كي اشرع في الكتابة عن شاعر شفيف مبدع لم يوفه الناس مايستحق من تثمين لأشعاره التي شكلت وجدان أجيال…
لكل ذلك فإني ابتدر سلسلة مقالات عن راحلنا الجميل جاعلا من روض اشعاره الأنف سوحا للإلهام ومبعثا لسياقات هي في المبتدأ والمنتهى لن تكون سوى بضاعة مزجاة في عوالم هذا الشاعر الذي رفد اغنية لهجة الشايقية بالكثيف من النصوص العبقرية.
…
بسم الله الرحمن الرحيم
أسموه بشيخ العاشقين وقد صدقوا…
رأى النور في أواخر الأربعينات في قرية الككر الحسيناب ،وهي قرية وادعة تستلقي بسلام على شاطئ النيل الغربي بجوار منطقة الجابرية الجميلة…
لم يزد تعليمه على المرحلة (الأولية) حينها، ولذلك سبب لاغرو يعلي من قدر راحلنا كثيرا!
عبدالله محمدخير وجد نفسه -مع خواتيم المرحلة الاولية- مسؤلا عن ابناء عمه الذي توفي وترك ابناء فيهم المصاب بمرض وراثي ويحتاج إلى الرعاية والصرف والمتابعة…
فما كان من (الصبي) عبدالله إلا تحمل المسؤليته بنبل ورجولة لم يكد يبلغها بعد…
ثم إنه برغم ذلك لم يرتكس ويسلم نفسه لمشاعر الخذلان بكونه لم يكمل تعليمه النظامي، مقنعا نفسه بأن الثقافة والمعرفة والاستنارة ليست قاصرة على الدارسين في مؤسسات التعليم النظامية والمستظلين بجدران الفصول الدراسية ، فشرع يحفظ كل ما يجده بين يديه من أشعار الأغاني، وعهد عنه ولعه بالبحث عن المجلات والصحف لإيساع سوح ثقافته وفضاءاتها…
ومن جانب آخر ، عاش شاعرنا طفولة ارتبطت وثيقا بأمواه النيل وجروفه الخصيبة ،والريانة بنفح الأنسام المداعبة لمائسات نخيل الحسيناب الذي تصطخب من فوق جريده أصوات القماري ،ودون ذلك على الأرض تتشابك أيادي (اللوبي) تشابكا دونه وصف حميد لجري (كلب) يتقافذ كما تقافذت السنوات منصرمة في ثنايا حياة راحلنا الجميل عبدالله محمد خير (التربال) انصرام حبات مسبحة في يد شيخ وقور…
ولم ينقضي جمال اللوحة التي كانت تجمل حياة شاعرنا ،فما ان يتجاوز جروف النيل المزدانة بنبات اللوبي تلك ،صعودا إلى أعالي الأرض صوب (البيوت) إلا وتنداح امام ناظريه (اناقي) البراسيم تهش من فوق ازهاره زرافات الزرازير ووحدانا من طير الجنة ،كلها تسبقه إلى قصار شجيرات النخيل فتنتقي منها (أم راس) و (المبقعي) من ثنايا عراجين المشرق و ودلقاي والكريق والمدين…
ذاك كان المسرح الذي عاش فيه شاعرنا (النجيفي) ،وما ان اشتد ساعده وبلغ مبلغ الشباب إلا وخفق قلبه بحب إبنة عمه التي أحبها بملئ قلب شاعر يستشف في كل شئ جمالا ،فكان الزواج، لينجبا (زينوبة) واخوتها…
وأصبحت الأسرة الصغيرة الجميلة تمثل كل شئ في حياته ،فإذا به يركب البحر مهاجرا -على مضض- الى أرض المملكة العربية السعودية فيستقر به المقام في مدينة الرياض لسنوات بلغت سبعة عشر حسوما، سعيا منه إلى توفير سبيل عيش أفضل لهم ،وظل في أرض الاغتراب بجسده بينما قلبه وروحه هنااااك في الحسيناب ،ومافتئت أسرته الصغيرة ملهمة له بجل أشعاره ،فإذا به كلما انتابه خاطر الشعر وشيطانه ينتفض كما الطائر الذبيح ليرفد الناس ماتعة من قصائده!…
وتطول به السنوات ولايستطيع السفر الى السودان ،وإذا به تصله رسالة من ابنته زينوبة تعاتبه على انقطاع رسائله وتسأله بشوق الابنة لأبيها بأن يا أبوي (هل نسيتنا)؟!
فتغرورق العينان منه بالدموع ،فيدع عمران مدينة الرياض خلف ظهره ويقف حاسر الرأس ناظرا إلى القمر متقمصا روح ابنته زينوبة مناجيا:
*ياقمرة*
*صبي السنسني الحمرة*
*شوفي أبوي أنا الراجاهو كل صباح*
ثم يمسح بكم ثوبه دمعتين تحدرتا ليخاطب طيف زينوبة ويقول:
*يازينوبة أبوكي هو أصلو حالو بره*
*لو قاري العلم ولاهو سيد خبرة*
*ومو زول غربة لكن الظروف جابرة*
*مالو ان كان صبر كل الخلوق صابرة*
*والصابرات روابح لو يجن قماح*
ثم تخنقه العبرات وهو يعيد قراءة رسالة زينوبة وكأنه بقلبه يتقطع ألما لعتاب أبنته -البرئ- بنسيانه لهم نسيهم فيقول:
*هو أصلو متين نساكم يمة شان يطرة*
*بيتنفس هوا ذكراكم العطرة*
*رهيف أحساس حنين قلبو بالفطرة*
*نديمو بقت دموعو الديمة منقطرة*
*وأصلو ان ما قعد بينكم ولابيرتاح*
وتمر الايام …
ويأتي العيد بلا جديد…
فهو كما هو قابع وحراكه قاصر على طريق يصل مكان سكنه بمكان عمله فكأنه جسدا بلاروح ،إذ كل همه جمع مال لاسعاد زينوبة وامها واخوتها والاستقواء على شظف العيش في زمن أضحي كل شئ فيه بالقروش -حتى الكلام- فلايلبث إلا أن يعود إلى رسالة زينوبة ويخاطب خيالها في ثناياها:
*جاهو العيد كمان زاد القليب حسرة*
*سادي العبرة حلقو ونفسو منكسرة*
*هو لالم القروش لاحصل المسرة*
*بلد مافيها زول مات من عدم كسرة*
*فراقكم ليها ياأحباب ولا كان صاح*
وبرغم العيد وأفراحه ينزوي راحلنا إلى غرفته مجترا هموم الغربة وقسوتها وهو البعيد عن أسرته الصغيرة ابنة عمه الحبيبة فلا يجد سوى (نفسه) ليهاطبها لائما إياها على قرار الأغتراب فيقول:
*ياأمارتي الما طاعت الأمرة*
*ندماني وبقت محتارة في أمرة*
*بعد قسن الدرادر قصرن عمرة*
*الشوق فاض وعماها الحنين غمرة*
ويستبد به الحنين الى ديار احبابه هنااااك في الجابرية فيقول:
*الشوق للبلد لي بهجتة وسمرة*
*الشوق لي مقيلا ضم ضم تمرة*
*الشوق لي حديثا ضم ضو قمرة*
*الشوق للبلد جابريتا وككرة*
*كان الشوق يخفف والله يبري جراح*
ويستبد به ألم الفراق ،وينكأ الشوق جراح نفسه فترتسم أمام ناظريه ديار زينوبة وأمها والأحباب وصور الطفولة الجميلة، فينظر إلى البعيد وقد أنفصم تماما عن واقعه وهو يقول:
*مشتاق للحسيناب أسقة وبكرة*
*مشتاق للقبيل اتربو فوق حجرة*
*مشتاق للدميري ومويتة العكرة*
*مشتاق للجزيري وتشقة وهكرة*
*مشتاق لي قطع بحرة ودخول وكرة*
*مشتاق للأبى يفارق الفؤاد ذكرة*
*مشتاق للعلي مشغول دوام فكرة*
*مشتاق للصباح ديدن غناي شكرة*
*وياريت كت بقدر أسوي شوقي جناح*
ياااااااه
ماأجملها من كلمات …
وماأصدقها من أشواق ومعاني…
تأملوا بالله عليكم السجع الكامن في (متوالية الشوق)!…
وتبينوا وصفه البديع للجزيري على كبر مساحتها وامتداد سوح جمالها وفضاءاتها!…
فقد أجمل كل ذلك في كلمتين صغيرتين في حجمهما لكنهما كبيرتان في معناهما ألا وهما (تشقا وهكرة)!…
وبرغم عبقرية المكان وكم الجمال المنداح فيه يظل وجه زينوبة وأمها كما النجوم الزواهر مرسومة بدفق النور في سويداء فؤاده ،مركوزتان بثبات في لجة خياله كلما امتطى جناح الشوق إلى هناااااك، ألى أرض الشمال…
ولكن يغلبه النوم فيرقد متوسدا رسالة زينوبة دونما عشاء!
(يتبع)
adilassoom@gmail.com