في سنة 1974 قام الأخ والصديق والعالم المهندس يحيي عبد المجيد بزيارة الى تنزانيا، وكان أنذاك مساعدا للأمين العام للاتحاد الاشتراكي، وهو يحمل رسالة من الرئيس نميري إلى الرئيس نيريري.. وأثناء إقامته بتنزانيا ، كان يرافقه وزير الأشغال التنزاني.. وقد شمل برنامج زيارته زيارة منطقة “بوكوبا” في شمال تنزانيا – وهي منطقة زراعية مطرية – وفي اثناء جولته في المنطقة – وكنت أرافقه وبجانبه الوزير التنزاني – بدأ المهندس يحيي يتحدث عن أهمية الري والاستفادة من مياه الأمطار، واهمية تخزينها وإقامة السدود في تلك المنطقة..
وكان حديثه علميا وجادا ومقنعا ، وكان يتحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة. وبعد ان انتهى من شرح أهمية الري في تلك المنطقة.
انتحي بي الوزير التنزاني جائبا وسألني إن كان يحيي سودانيا أصيلا او “موزنقو” متجنس بالجنسية بالسودانية، فلما سألته لماذا اعتقد ذلك؟ رد على بأنه يفكر كموزنقو، ويتحدث اللغة الإنجليزية بطلاقة كموزنقو.. فأكدت له أنه سوداني مائة بالمائة.. ولكن على الرغم من ذلك فإنني أعتقد أنه لا يزال غير مصدق ما قلته حتى الآن.
وكان من المفترض أن يغادر السيد يحيي عبد المجيد بعد تسليمه الرسالة للرئيس نيريري، في اليوم التالي لزيارة منطقة ” بوكوبا “، وفي صبيحة ذلك اليوم أفادني وزير الخارجية التنزاني أن الرئيس نيريري يرغب في مقابلتي بصورة عاجلة.. فوافقت على الفور، وذهبت إلى مقابلته في ظهر نفس اليوم ، بعد ان
تبادلنا التحايا طلب مني الرئيس نيريري أن أبعث برسالة إلى الرئيس للموافقة على أن يبقى المهندس يحيي عبد المجيد اسبوعين في تنزانيا للمساعدة في موضوع الري ، والاستفادة من مياه الأمطار في المناطق الزراعية ، ونقلت هذه الرغبة فورا إلى رئاسة الوزارة.
وبالفعل وافق النميري على طلب الرئيس نيريري ، وتقرر بقاء المهندس يحيي المجيد لمدة أسبوعين بتنزانيا، وقد علمت بعد ذلك أن وزير المواصلات التنزاني الذي كان يرافق المهندس يحيي عبد المجيد قد نقل بالتفصيل كل ما ذكره المهندس يحيي عن موضوع المياه والسدود إلى الرئيس نيريري، إضافة إلى إعجابه بيحيي وسعة إطلاعه ومعرفته بذلك المجال .
انتهت زيارة المهندس يحيي إلى تنزانيا بوضع تصورت لإنشاء وزارة للري للمرة الأولى في تاريخ تنزانيا، وليس ذلك فحسب، بل إن السودان وافق على انتداب خمسين مهندسا سودانيا كمعونة فنية من السودان لإنشاء تلك الوزارة على ان يتحمل السودان تكاليف سفرهم ومرتباتهم الشهرية، وتقوم تنزانيا بتوفير أماكن إقامتهم لمدة عامين ، كما يشمل ذلك أن تقوم تنزانيا بتقديم عشرين منحة دراسية
بجامعة دار السلام للطلاب السودانيين.
وقد التزم الجانبان بتتفيذ ذلك الاتفاق، ووصل خمسون مهندسا سودانيا بعوائلهم إلى دار السلام على رأسهم كبير المهندسين الريح عبد السلام حاج أحمد المفبول وأرسل السودان عشرين طالبا للدراسة في الكليات المختلفة بجامعة دار السلام على نفقة حكومة تنزانيا. وبعد مرور اكثر من خمسة عشر عاما من
استقلال تنزانيا قامت لأول مرة وزارة للري بتنزانيا ، التي كانت نتيجة اندهاش وزير المواصلات التنزاني الذي كان يرافق المهندس يحيي عبد المجيد أثثاء زيارته لتنزانيا التي لم تكن لها علاقة إطلاقا بما حدث بعد تلك الزيارة.
وفي هذا المجال ترد إلى الخاطر قصة أخرى ترتبط بالزيارة التي قام بها “كينث كاوندا” رئيس جمهورية زامبيا السابق للسودان في عهد الديمقراطية الثانية، وكان من ضمن برنامج جولته في السودان زيارة ورش السكك الحديدية بمدينة عطبرة وفي رفقته الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة آنذاك، وكان ذلك في أعقاب استقلال زامبيا عام ١٩٦٤ .
وقد أبدى الرئيس “كاوندا “إعجابه وسروره بما رأى في تلك الجولة.. وكان مما أثار اندهاشه عدم وجود أجانب ضمن العاملين في تلك الورش ، إذ كانت تدار بأيد سودانية من مهندسين ، وموظفين ، وعمال في الوقت الذي كان فيه ” البيض” في زامبيا يسيطرون على كل المرافق بعد الاستقلال، فأبدى الرغبة للرئيس أزهري بأن يقوم السودان بإرسال فريقا لإدارة السكك الحديدية بزامبيا..
فوافق الرئيس أزهري على ذلك الطلب، وقام السودان بإرسال عدد من المهندسين وأكثر من ألف عامل في مختلف التخصصات في مجال السكك الحديدية الى زامبيا برئاسة المهندس القدير أحمد الأمين العجباني «رحمه الله».
وهذه الحقائق تعكس وضع السودان آنذاك الذي أكسبه سمعة إقليمية وعالمية, كان من المفترض أن يحتل بذلك موقعا متقدما اليوم فـي القارة الأفريقية, وان يمثل حلقة الوصل التي لا تزال مفقودة بين العالمين العربي والأفريقي.. ولكن السودان فقد حلقة الوصل مع نفسه وليس مع غيره فقط.
هكذا كان السودان.. وهكذا كان أبناء السودان العمالقة من أمثال العجباني والريح ومرتضى أحمد إبراهيم والطيب عبد الرازق وبخيت مكي ومأمون بحيري وعلى التوم و”الموزنقو” يحى عبد المجيد وعبد الله محمد إبراهيم.. يتربعون في أعلى وأهم المواقع في القارة الأفريقية.. يرفعون اسم السودان عاليا.. ولكن يا للعجب فإن أبناء السودان يقفون اليوم أمام السفارات للحصول على تأشيرات إلى أي مكان في العالم لهجرة لا عودة بعدها، ومنهم من يحمل التخصصات العلمية المختلفة للعمل بمواقع دول في المنطقة… لا تليق ولا تحترم تلك التخصصات.
ومن يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام
منقووول