ما المطلوب من “منبر جدة” لإيقاف الحرب في السودان؟
النقاشات حول استئناف أعماله لم تنقطع مع طرح مشاركة أطراف أخرى
أمجد فريد الطيب
في 29 مايو/أيار 2024، دشن المبعوث الأممي للسودان رمضان العمامرة زيارته الثانية للسودان.
الدبلوماسي الجزائري رمضان العمامرة (رمطان لعمامرة) البالغ من العمر 71 عاما، شغل سابقا منصب وزير خارجية الجزائر مرتين. الأولى من 2013 إلى 2017 والثانية من 2021 إلى 2023، كما عمل لفترة طويلة كمسؤول رفيع ضمن طاقم الاتحاد الأفريقي وترأس “مجلس الأمن والسلم الأفريقي” في الفترة بين 2008 إلى 2013. وتولى العمامرة منصب الممثل السامي لإسكات البنادق في أفريقيا. وعمل في الفترة 2018-2021 كعضو في الآلية الأفريقية الرفيعة للسودان وجنوب السودان والتي يترأسها الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو أمبيكي.
بكل هذه الخلفية والخبرة الدبلوماسية، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تعيين العمامرة مبعوثا شخصيا له إلى السودان لقيادة جهود الأمم المتحدة لإيقاف الحرب فيه بعد إنهاء مهمة البعثة السياسية الخاصة للأمم المتحدة “يونيتامس” بسبب ضغوطات الحكومة السودانية.
تزامنت زيارة العمامرة، مع إعلان المتحدث باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر عن الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع قائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان في 28 مايو. وأورد البيان أن البرهان وبلينكن قد ناقشا في الاتصال الحاجة إلى إنهاء النزاع في السودان على وجه السرعة وتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، ويشمل ذلك وصول المساعدات عبر الحدود الدولية والسماح بمرورها عبر خطوط سيطرة الفصيلين المتحاربين، لتخفيف معاناة الشعب السوداني واستئناف مفاوضات السلام في منصة جدة والحاجة إلى حماية المدنيين وتهدئة الأعمال العدائية في مدينة الفاشر، شمالي دارفور.
ولعل أبرز ما جاء في هذه المكالمة الهاتفية بين بلينكن والبرهان هو مناقشة استئناف المفاوضات في منبر جدة. فقد ظل هذا المنبر ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، هو المنبر التفاوضي الوحيد المعلن رسميا الذي جمع بين طرفي القتال: الجيش و”قوات الدعم السريع”.
وقد انطلقت أولى جولات منبر جدة في 6 مايو 2023 برعاية سعودية وأميركية مشتركة. وشهد المنبر قبل توقف أعماله في نوفمبر 2023، الاتفاق على وقف إطلاق النار لفترات مختلفة بين الطرفين المتقاتلين إحدى عشرة مرة. ولكن لم يتم الالتزام بهذه الهدن من قبل الطرفين في أي من هذه المرات بشكل جاد. بل إن خروقات وقف إطلاق النار وتزايد تبادل الهجمات أضحى هو المعتاد فور التوقيع على هذه الهدن.
وشهد المنبر في 11 مايو 2023 توقيع “إعلان جدة للمبادئ الإنسانية الحاكمة”. ونص الإعلان على التزام الموقعين بحماية المدنيين ومراعاة متطلبات الوضع الإنساني وتأكيد التزام الطرفين بالقانون الدولي الإنساني.
وتضمّن الإعلان التزامات مشددة شملت الالتزام بضمان حماية المدنيين في جميع الأوقات، ويشمل ذلك السماح بمرور آمن للمدنيين لمغادرة مناطق الأعمال العدائية الفعلية على أساس طوعي في الاتجاه الذي يختارونه والامتناع عن أي هجوم يتوقع أن يتسبب في أضرار مدنية مفرطة وإخلاء المرافق المدنية بما فيها مساكن المواطنين وعدم استخدام المدنيين كدروع بشرية والالتزام بالإجلاء والامتناع عن الاستحواذ واحترام وحماية كل المرافق الخاصة والعامة كالمرافق الطبية والمستشفيات ومنشآت المياه والكهرباء، والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية، والامتناع عن تجنيد الأطفال والامتناع عن الانخراط في عمليات الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي للمدنيين، إلى آخر قائمة مفصلة من الالتزامات الإنسانية والتي لم تخرج عن سياق نصوص القانون الإنساني الدولي واتفاقات جنيف الأربع التي تنظم سلوك المتحاربين أثناء النزاعات المسلحة وتضع قواعد قانون الحرب.
هذه النقاط كان من المفروض أن يكون التزام الطرفين بها مسبقا وأساسيا ولا يحتاج إلى تأكيد عبر إعلان مبادئ جديد أو خاص. لكن الشاهد في مسار الأحداث على مدار العام الماضي أنه لم يجر الالتزام أيضا بأي من بنود الإعلان، بل تفاقمت وتزايدت الخروقات.
واستمرت “قوات الدعم السريع” في احتلال الأعيان المدنية وبيوت المواطنين، وانتشرت تسجيلات جنود الميليشيا وهم يهددون أصحاب المنازل الأصليين من الرجوع، والتصريح بأن هذه البيوت قد أصبحت الآن لهم في سياق إنهاء دولة 1956.
واستمرت الميليشيا على مدار العام الماضي في ضرب الحصار وفرض التجويع على مناطق سكنية واسعة لفترات مطولة مثل جزيرة توتي المحاصرة منذ يونيو/حزيران من العام الماضي والتي يمنع عناصر الميليشيا سكانها من المغادرة، والفتيحاب، وبانت، وأحياء مدينة ود مدني، وغيرها. بل وصلت درجة الانتهاكات إلى التعطيش المتعمد مثلما حدث موخرا عندما استولت “قوات الدعم السريع” على خزان “قولو” الذي يعتبر مصدر الإمداد الوحيد بالمياه لمدينة الفاشر المحاصرة وقيامها بإغلاق أنابيب إمداد المياه إلى المدينة، وذلك قبل أن تنجح القوات المشتركة وقوات الجيش في استعادة السيطرة على الخزان، وهو سيناريو التعطيش نفسه الذي تعيشه مناطق واسعة من مدينة بحري، إحدى المدن الثلاث المكونة للعاصمة الخرطوم، منذ اندلاع الحرب بعد استيلاء الميليشيا على محطة تنقية المياه الرئيسة في المدينة.
واستمر الهجوم على المناطق السكنية وشمل قرى ولاية الجزيرة التي تشهد حملة ترويع وتقتيل وتهجير ممنهجة ومستمرة حتى اليوم، ولم تنجُ حتى معسكرات النازحين من هجمات الميليشيا مثلما حدث لمعسكرات كلمة، وأبو شوك، في ولاية شمال دارفور التي هاجمتها ودمرتها ميليشيا “قوات الدعم السريع” وأعادت تكرار مأساة التهجير القسري التي عاشها سكانها. وأيضا استمرت ميليشيا “الدعم السريع” في التحصن بالمناطق السكنية والمرافق المدنية والتعامل مع المدنيين كدروع بشرية بينما استمرت قوات الجيش في القصف الجوي لمناطق تحصن الميليشيا دون أن تلقي كثير بال لحجم الخسائر البشرية وكلفة الدمار المترتب على هذا القصف.
باختصار، لم تنعكس بنود إعلان مبادئ جدة الموقع بين الجيش و”الدعم السريع” في 11 مايو 2023 على أرض الواقع، ولم تنجح في حماية المدنيين أو تحسين أوضاعهم بأي شكل من الأشكال في ظل عدم الالتزام بها، واستمرت الكارثة الإنسانية في التفاقم ليتطور الوضع في السودان ويصبح أكبر كارثة إنسانية معاصرة.
وقد شهدت الجولة الأخيرة من منبر جدة والتي انعقدت نهاية العام الماضي، إضافة “الإيقاد” (الهيئة الحكومية للتنمية وهي المنظمة الإقليمية التي تضم دول شرق أفريقيا ومن بينها السودان) إلى رعاية المنبر، ممثلة للاتحاد الأفريقي. وكانت الوساطة منحصرة قبل ذلك على الحكومتين السعودية والأميركية.
وبينما توقف المنبر التفاوضي منذ 4 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فإن النقاشات حول استئناف أعماله لم تنقطع، مع طرح إضافة ومشاركة أطراف أخرى في رعاية المنبر، وبالتحديد دولتي مصر والإمارات، لتحقيق أكبر قدر من الشمولية والنفوذ والتأثير على الطرفين المتحاربين. ولكن منذ ذلك الحين، حدثت متغيرات كثيرة وجرت مياه كثيرة تحت جسور الحرب في السودان ربما يكون لها تأثيرها على مسار تواصل أعمال منبر جدة التفاوضي لإيقاف الحرب في السودان.
وبالإضافة إلى تعيين العمامرة كمبعوث شخصي للأمين العام للأمم المتحدة للسودان، والذي جاء في وقت مقارب لانعقاد أعمال الجلسة الأخيرة، قامت الولايات المتحدة الأميركية في 3 فبراير/شباط 2024 بتعيين توم بيرييلو مبعوثا خاصا للسودان، وتزامن ذلك التعيين مع استقالة (أو ربما إقالة) السفير الأميركي المعتمد لدى الخرطوم جون غودفري من منصبه (أو من الخارجية الأميركية كلها كما يتردد في بعض الدوائر).
وقد كانت تحركات السفير غودفري الدبلوماسية والسياسية داخل السودان في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب، قد ساهمت في زيادة الاستقطاب الذي أدى إلى إشعال فتيلها بشكل كبير بحسب كثير من المراقبين للشأن السوداني. وواصل غودفري المدعوم من مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية السيدة مولي فيي، نهج وسياسات الاستقطاب نفسهما بعد اندلاع الحرب على نحو ساهم إلى حد بعيد في زيادة اشتعالها وكذلك في توفير حصانة سياسية مؤسسية لميليشيا “قوات الدعم السريع” عن الانتهاكات التي يرتكبها أفرادها.
وقد أتى تعيين بيرييلو واستقالة أو إقالة غودفري كإشارة لانتباه واشنطن إلى فشل سياساتها السابقة في السودان ومساهمتها السلبية في تأزيم الأوضاع فيه منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. ولكن حتى الآن، وبينما يحاول المبعوث الجديد بيرييلو النأي بنفسه عن عبء إرث سياسات غودفري السابقة، فهو لم يقدم حتى الآن أي توجهات أو سياسات أو طروحات جديدة بخصوص اتجاهات الحل في السودان، على الأقل بشكل علمي، ويبدو مستغرقا في عقد اجتماعات تشاورية واسعة مع أطياف متعددة من السودانيين، بعيدا عن سياسات المحسوبية السياسية وصناعة العملاء وتوجيه التعليمات السياسية التي كانت عنوان السياسات السابقة.
صراع خفي في واشنطن
تأخر بيرييلو في طرح توجهات جديدة لا يعزى فقط لاستغراقه في هذه المشاورات، بل أيضا إلى الصراع الخفي داخل أروقة الخارجية الأميركية، بين الحرس القديم بقيادة مولي فيي والتي تصر على أن يعمل المبعوث تحت إشرافها ويقدم تقاريره لها ويتلقى توجيهات عمله منها، وتريد منه مواصلة السياسات القديمة نفسها بتعديلات طفيفة، وبين مجموعة كبيرة من الخبراء المختصين بالسودان في واشنطن والمدعومين من تحالف كبير ومؤثر في العاصمة الأميركية ويشمل أعضاء الحزبين الكبيرين في الكونغرس الأميركي يدعم استقلالية بيرييلو عن مولي فيي، ويطالب بمنحه الموارد الكافية لعمله وأن يتم الإشراف عليه بواسطة وزير الخارجية بلينكن مباشرة.
قد يبدو كل هذا مجرد اختلاف إجراءات إدارية بسيطة، ولكنه انعكاس لطبيعة خلاف أعمق داخل أروقة الخارجية الأميركية بين موظفي وزارة الخارجية البيروقراطيين مثل مولي فيي وغودفري من جهة، ومن جهة أخرى من يشغلون مناصب التعيينات السياسية مثل بيرييلو المعين من أروقة “الحزب الديمقراطي” الحاكم والذي شغل مواقع دبلوماسية مماثلة بتعيينات سياسية أيضا مثل الممثل الشخصي للرئيس أوباما في لجنة استعراض الدبلوماسية والتنمية في الفترة من 2014 إلى 2015، والمبعوث الخاص للولايات المتحدة لمنطقة البحيرات العظمى في الفترة 2015 إلى 2016، وبينما كان عضوا منتخبا في مجلس النواب الأميركي عن دائرة فيرجينيا الخامسة في الفترة من 2009 إلى 2011. وربما يكفي لكي نتلمس حجم تأثير هذا الخلاف أن بيرييلو ورغم انقضاء أربعة أشهر منذ تعيينه لم يستطع حتى الآن إكمال تعيين طاقم مكتبه أو مساعديه في ظل تحكم مولي فيي في الموارد والصلاحيات اللازمة لذلك!
وعلى صعيد آخر للمتغيرات، أعلنت الحكومة السودانية في 20 يناير/كانون الثاني 2024 تجميد عضويتها في “الإيقاد”، وذلك بعد مشاركة حميدتي قائد “قوات الدعم السريع” ووفد من تحالف “تنسيقية القوى المدنية” (تقدم) الذي يترأسه رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك في أعمال قمة “الإيقاد” التي انعقدت في يناير. وكانت “الإيقاد” قد أعدت وأعلنت في خواتيم ديسمبر الماضي، موافقة كل من البرهان وحميدتي على عقد اجتماع مباشر تحت رعايتها للتفاوض المباشر حول وقف الحرب في السودان مطلع يناير، قبل أن تعود وتعتذر عن عقد الاجتماع متعللة بظروف تقنية منعت وصول قائد “قوات الدعم السريع” حميدتي إلى جيبوتي مكان انعقاد الاجتماع المخطط له. ولكن ما خرج إلى العلن أن حميدتي وتحالف “تقدم” كانا قد فضلا عقد اجتماعهما المشترك في أديس أبابا يومي 1 و2 يناير 2024 والتوقيع على اتفاق حمدوك حميدتي السياسي الذي تم يوم 2 يناير في أديس أبابا، قاطعين الطريق أمام اللقاء المباشر بين برهان وحميدتي. وهو ما سيضيف تعقيدا جديدا لمشهد وجود “الإيقاد” بين الوسطاء في المنبر، ذلك غير الاعتراضات الأخرى على توسعته وإضافة أطراف أخرى بالأساس.
وأيضا، شهدت فترة توقف أعمال منبر جدة، انعقاد لقاء سري بين وفدين للجيش و”الدعم السريع” في المنامة. وتم ترتيب هذا اللقاء الذي ضُرب عليه سياج واسع من السرية برعاية واسعة، شملت مصر والإمارات والسعودية والبحرين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى مشاركة الاتحاد الأفريقي. ولكن لم تكلل مفاوضات المنامة بأي نجاح يذكر، وعند النظر إليها فإن مخرجاتها لم تعدُ سوى محاولة للعودة إلى معادلات قسمة السلطة التي سادت في فترة ما قبل اندلاع الحرب.
أما المتغير الأكبر والأخطر منذ توقف “جدة” فهو انتشار رقعة الحرب وتزايد الانتهاكات والجرائم المرتكبة وآثارها الإنسانية الفادحة. حيث تشهد هذه الأيام وبالتزامن مع دعوات إعادة تفعيل منبر جدة التفاوضي، تكثيف هجمات الميليشيا على مدينة الفاشر- عاصمة شمال دارفور- في سعيها للاستيلاء على آخر ولاية خارج سيطرتها في إقليم دارفور.
وقد تضاعف حجم الانتهاكات التي ترتكبها “قوات الدعم السريع” ضد المدنيين والتي لم تستثن حتى معسكرات النازحين وإحراق قرى المواطنين في المناطق المحيطة بالمدينة. وتفيد تقارير المراقبين على الأرض أن هناك مقاومة شعبية واسعة وباسلة في معية قوات الجيش السوداني والقوات المشتركة للحركات الدارفورية للدفاع عن المدينة من السقوط في قبضة “قوات الدعم السريع”، ويغذي هذه المقاومة التخوف الشعبي الواسع من الممارسات الفاشية التي تميز سلوك “قوات الدعم السريع” والمصير الذي لاقاه مجتمع المساليت في مدينة الجنينة وما حولها عند سقوط ولاية غرب دارفور في قبضة الميليشيا في يونيو 2023. حيث أورد تقرير لجنة الخبراء المعنية بدارفور والتابعة للأمم المتحدة أن عدد الضحايا من المساليت الذين قتلتهم ميليشيا “الدعم السريع” على أساس عرقي تراوح بين 10 آلاف إلى 15 ألف ضحية في أيام قليلة، بينما تم تهجير مئات الآلاف من المواطنين إلى معسكرات اللجوء في تشاد المجاورة.
وتسعى ميليشيا “الدعم السريع” للسيطرة على دارفور بغرض إعلان حكومة مستقلة على غرار حكومة حفتر في السيناريو الليبي. وكما لا تزال قرى وأرياف ولاية الجزيرة التي سقطت في قبضة الميليشيا نهاية العام الماضي تشهد تزايدا مطردا لهجمات القمع والتقتيل والتشريد والنهب التي تشنها “قوات الدعم السريع” عليها، بالإضافة إلى الإفساد المتعمد للأراضي الزراعية وتحطيم البنية التحتية في الولاية بشكل يهدف لتهجير أهلها وتشريدهم، وهو ما يزيد بدوره من الاستقطاب الاجتماعي ويقلل الدعم الشعبي لجهود وقف الحرب.
الواقع أن كل هذه المتغيرات تلقي بظلالها على مسار استعادة وتفعيل منبر جدة، ولكنها أيضا تزيد من أهميته. فما أضر وزاد من تعقيد جهود إيقاف الحرب في السودان أكثر من تعدد المنابر والمبادرات الدولية، والتي تحتاج بشكل جوهري للتوحد والتنسيق فيما بينها. ولكن منبر جدة يحتاج أيضا إلى ما هو أكثر من ذلك، وهو إعادة هيكلته وأهدافه في سياق منظومة منطقية تعلي من شأن الأولويات الماسة وتتدرج إلى ما بعدها. وكذلك يحتاج إلى آلية إنفاذ واضحة وملزمة للاتفاقات السابقة وخصوصا فيما يتعلق بالممتلكات الشخصية والخاصة بالمواطنين ومساكنهم وما إلى ذلك، ويتضمن ذلك التدرج من:
1- ضمان حماية المدنيين والمساعدات الإنسانية باعتبارها التزامات غير خاضعة للتفاوض ولا للحسابات السياسية. واستخدام القانون الدولي لإنفاذ هذه الالتزامات وبالتحديد مبدأ مسؤولية الحماية، بمعنى أن حياة وأمان ومعيشة المدنيين السودانيين لا يمكن أن تكون رهينة لمنهج تدليل طرفي الحرب وحاملي السلاح.
2- التوصل إلى وقف إطلاق نار تقني، بمعنى أنه غير متعلق بأي ترتيبات سياسية أخرى ويشمل الاتفاق عليه، تحديد آليات إنفاذ ومراقبة. وهنا يبرز دور كبير يمكن أن تلعبه “قوات الاستعداد” الشرق أفريقية، وهي آلية تابعة للاتحاد الأفريقي، لديها التفويض اللازم لمراقبة وإنفاذ وقف إطلاق نار طويل الأمد.
3- يأتي بعد ذلك وليس قبله، التمهيد لعملية سياسية شاملة تضع أسس إنهاء الحرب في السودان. ويتضمن هذا التمهيد السعي لرتق النسيج الاجتماعي وتخفيف حدة الاستقطاب السياسي الذي تغذيه محاولات احتكار الصوت المدني والتمثيل المدني. هذه العملية السياسية ينبغي أن تكون ذات طابع تأسيسي وذات طابع مدني يخاطب أزمات السودان دون مشاركة القوى حاملة السلاح. فإذا كان التفاوض حول وقف إطلاق النار وفصل القوات من الشؤون العسكرية البحتة لا علاقة للمدنيين بها إلا فيما يعني ترتيبات الأوضاع الإنسانية، فإن العملية السياسية هي عملية مدنية بحتة، ولا يمكن ولا يجب مشاركة أطراف الحرب المسلحة فيها. ولكن أيضا ما أضر بمسار منبر جدة في السابق هو تلهف السياسيين المدنيين للمشاركة فيها والدفع بأجنداتهم ومطامعهم السياسية قبل أهداف وقف الحرب. وهو أيضا ما حدث في المنامة وأدى إلى تعطلها بالكامل.
هذه العملية التي يمكن أن يتبنى نجاحها منبر جدة تحتاج إلى شفافية كاملة وإلى مراقبة شعبية لصيقة وإلى أن تشتمل على آليات للعدالة والمحاسبة والعدالة الانتقالية يوافق عليها ويدعمها الضحايا لا من ينوب عنهم، وليس إعادة تكرار سيناريوهات وصفقات الغرف المغلقة. وكما ينبغي أن تكون أهدافها واضحة، ومحددة بدقة بشكل مسبق، ومتسقة مع الشعار الذي رفعته الثورة السودانية (العسكر للثكنات والجنجويد يتحل)، وهو شعار قابل للتحقيق في سياق عملية إصلاح شاملة وهيكلية للمؤسسة الأمنية والعسكرية في السودان، وهي عملية تتجاوز برامج الدمج والتسريح التي يتم اختزالها فيها، وهي جزء من إصلاح شامل في جهاز الدولة لإعادة إنتاجه بشكل حديث وفاعل وملائم للواقع السوداني.
هذا الوضوح، وشفافية مسار منبر جدة، سيكونان هما الضمان لأن يصبح شعار وقف الحرب شعارا جماهيريا لكل السودانيين وليس مجرد لافتة سياسية لاتؤدي الى وقف هذه الحرب المستمرة منذ ابريل/نيسان 2023.