جاء مقال السيدة رشا عوض المنشور بصحيفة التغيير يوم الجمعة الموافق ٢ اغسطس ٢٠٢٤م و المعنون ب ” حول شعار الجنجويد ينحل ” كالعادة في ثوب ظاهره جميل يسر الناظرين نسبة لما تمتلكه الكاتبة من احترافية في تطويع الكلمات والأحرف لخدمة اهدافها ومواقفها السياسية، وفي هذه النقطة بالذات تجدر الاشارة الي ان الانحياز السياسي المفضوح لأي صحفي يجرده بتلقائية من مهنيته وممارسة دوره كسلطة رابعة ويحيل كل منتجه الصحفي من انه منتج للوعي والاستنارة وتمليك الحقائق للرأي العام الي خانة انه مجرد مقال للرأي، وعندما يصبح الرأي سياسيا فحينها يحق للقراء وللغرماء السياسيين في الضفاف الاخرى للرأي – يحق لهم – الاتفاق او الاختلاف مع كاتب الرأي دونما شطط ولا غلو، هذا الشطط والغلو الذي تبتدر به كاتبة الرأي رشا عوض حين تبادر بوصف كل من يختلف مع قوى الحرية والتغيير او يتهمها بالمسؤولية في اشعال الحرب بأنه بلبوس وكوز.
في الحقيقة السيدة رشا عوض تقع هنا في مغالطة معرفية لانها لا يمكن ان تمتلك ناصية المعرفة السياسية دون ان يكون لها سابق اهتمام او فعل حركي او حتى جانب تثقيف ذاتي سياسي فيما قبل سنوات ثورة ديسمبر المجيدة والحكم الانتقالي وتنسمها لبعض المواقع ضمن العديد ممن لعبت قوانين الصدفة لا الاستحقاق في وضعهم السياسي المستجد.
المغالطة المعرفية التي لا تدرك كنهها السيدة رشا عوض هي أن مجرد التفكير في الحرب ناهيك عن شنها واستعارها لما يزيد عن العام وثلاثة أشهر هو في حد ذاته عائد في المقام الأول الي فشل السياسة – بوصفها فعلا مدنيا سلميا – في أن تعالج المشكلات التي تعمل الحرب لحلها او يدعي اطرافها ذلك. وتذهب بعض الآراء الفلسفية الي أن الحرب من السياسة، ولكن الرأي الفلسفي الأكثر رسوخا وتعارفا هو ما جاء به الجنرال والمؤرخ الحربي الألماني كلاوزوفيتز بأن الحرب هي سياسة في حد ذاتها ولكن بطريقة أخرى يكون فيها السلاح هو اداة ووسيلة السياسة الفاعلة. وهنا تجدر الاشارة الي مجموعة من تصريحات قوى الحرية والتغيير سابقا وتقدم لاحقا التي ترفض مبدأ حل الجنجويد حسب تصريحات بعض قادتهم التي ذهبت الي أن الجنجويد قوة نظامية تم بناءها من اموال دافعي الضرائب ولا يجب حلها، فيما اشتد الشطط ببعضهم الي ضرب الامثلة بالثورة الاثيوبية عندما انتصر الثوار المسلحون وتم حل وتفكيك الجيش الاثيوبي في مقاربة تكاد تكون مثيرة للرثاء تلبس الجنجويد ثوب الثوار وتمهد ضمنيا لما تعنيه عملية الاصلاح الامني والعسكري لدى قوى الحرية والتغيير وهي حل وتفكيك القوات المسلحة السودانية.
بعد كل هذا وصمت حريتكم وتغييركم لردح من الزمان خلال هذه الحرب عن ادانة وتجريم عصابة الجنجويد رغم كل انتهاكاتهم الانسانية التي شهد عليها العالم اجمع، اليس من الطبيعي ان تجدي قلة او اكثرية من السودانيات والسودانيين يتهمون قوى الحرية والتغيير ؟!!!
واذا كان هؤلاء الذين وقع عليهم الانتهاك من اهلنا في كل مناطق الحرب الدائرة الان، والذين لم تتورعي عن وصفهم بالبلابسة والكيزان هم الرأي العام الذي تخاطبينه خلال سنوات عملك كصحفية هم بهذا الجهل وعدم الادراك فهي شهادة تشهدي بها على قلمك واقلام زملائك وزميلاتك في بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة – تشهدين – بفشلكم الزريع في توعية الجماهير وتمليكهم الحقائق الكفيلة بأن يتخذوا المواقف الوطنية الصحيحة خاصة وانهم – أي الشعب – هم اصحاب المصلحة الحقيقية في وقف الحرب واستتباب الامن والاستقرار وليس غيرهم.
نعم يا سبدتي الفاضلة ان اكبر وأهم اسباب شن الحروب هي فشل الساسة، عندما لا يمتلكون رؤى وبرامج واضحة وعلمية وقابلة للتطبيق العملي يكون هذا مدخلا للانسداد السياسي، عندما يمتهن الساسة رفع الشعارات واطلاق التصريحات دونما قياس او تقييم للمخاطر يقود هذا الي الاحتقان السياسي، وايضا تقع المسؤولية على الساسة حين يتشدقون مثلك بما يسمى بالاصلاح الامني والعسكري دون أن يكون لديهم رؤية واضحة للسياسات الكفيلة بتحقيقه و دون ان يكونوا مدركين لماهية المصالح التي تهم كل طرف من اطراف الحرب، ما هي المصالح التي يريد هذا الطرف تحصيلها وما هي المصالح التي يريد ذاك الطرف الدفاع عنها.
واذا تعمقت الكاتبة بعقل نقدي وتحليلي متجرد وغير منحاز كشأنها الآن فستجد ان كل الحروب في التاريخ الانساني – جميعها بلا استثناء – هي مرحلة من مراحل السياسة، كانت هناك مراحل سياسية قبلها من المفترض ان تقوم بما تزمع الحرب القيام به من أدوار، ولكن عدم مقدرة السياسة على انجاز ما عليها ان تنجزه في المراحل السابقة للحرب هو ما أخذها الي خيار الحرب من حيث هي اخر مراحل السياسة ولحظات تعبيرها العنيف عن نفسها – بمعنى آخر – الحرب هي اشهار لافلاس السياسة وفشلها كسياسة وانتهائها الي القوة والعنف كملاذ أخير .
نعم السياسة والساسة مسؤولون عن هذه الحرب شأنهم شأن العسكر والجنجويد، والساسة هنا تشير الي كل الوجود السياسي ليس قوى اعلان الحرية والتغيير فقط، فالناس جميعهم يدركون دور الكيزان في نشوب الحرب وتأجيجها ويلعنونهم صباحا ومساء أسوة بلعناتهم التي تلاحق قوى حريتكم وتغييركم وقوى سلام جوبا ولكنكم انتم الاكثر احساسا بتوجيه التهمة لكم وهذا طبيعي من خلال احساسكم بدوركم كشريك لطرفي الحرب في الفترة الانتقالية وايضا مساعيكم السابقة لاستعادة الشراكة عبر الاتفاق الاطاري – هذه الشراكة المنقلب عليها او التي كنتم تزمعون استعادتها – لم تقم الا على الاقصاء السياسي الذي ما زلتم تمارسونه بتلقائية عجيبة حتى في التهم التي تلاحقكم تظنون انكم الاولى بها وحدكم.
قبل ان أختم اسمحي لي بالاتفاق معك في مقولتك للحق والتي اظن ولا اثم في ظني بأن المراد بها باطل وهو قولك بأن موضوع حل الجنجويد ليس بالتبسيط الطفولي والاستسهال الذي يتحدث به البعض، هذا التبسيط والاستسهال الذي يجعل كثير من الساسة وانتي منهم قطعا بأن يشنفون آذاننا بالخطب السياسية المليئة بالعبث اللفظي والتخريجات اللغوية دون ان يقدموا لنا رؤية واضحة أو برنامج واليات ووسائل لتحقيق مطالب الشارع والجماهير في عودة العسكر للثكنات وحل الجنجويد، كل ما تمت كتابته وتفوهت به تصريحات الساسة هي مجرد مداعبات لفظية دون وجود اي سياسات سواء كان ذلك ابان الحكم الانتقالي الذي كنتم حاضنته السياسية او عبر الاتفاق الاطاري الذي كنتم شركاء به او حتى الان خلال هذه الحرب التي استمتعتم فيها بالسياحة وراج فيها سوق النخاسة السياسة على ارواح ودماء الضحايا من شعبنا وممتلكاته المنهوبة وعروضه المستباحة والتدمير الممنهج لما تبقى من الدولة السودانية.
ثم ان وصفك للمختلف في الرأي والموقف السياسي بأنه خاضع لتناول العلف الكيزاني، واطلاق الاوصاف على شاكلة البلابسة والكيزان على متهمي الحرية والتغيير يتناقض جذريا مع خاتمة مقالك والدعوة لعدم انخراط القوى المدنية في تخوين وتجريم بعضها البعض على خلفية الموقف من الحرب فأنت الأولى بالعمل بهذه النصحية قبل أن تدعي لها الآخر المدني.
وآخر قولي بأن الحياة المدنية الديمقراطية ليست بقرة مقدسة حتى نعبدها، ان المقدس الآن والمقدم على كل ما عداه هو الحفاظ على الحياة الانسانية وحق الشعب في البقاء الذي يهدده حلفائكم الجنجويد ولا سواهم، والحفاظ على ما تبقى من الدولة، ويقيني ان ابناء وبنات هذا الشعب والاوفياء من ثواره وقواه المدنية غير الملوثة اياديها بدنس الجنجويد قادرون على التوافق وابتداع الوسائل والسياسات الكفيلة بالاصلاح التدريجي واعادة بناء كل مؤسسات الدولة بما فيها القوات المسلحة يما يضمن تحقيق اهداف الثورة وانجاز مهام التغيير.
وائل عبدالخالق مالك
السبت ٣ اغسطس ٢٠٢٤م.