*أبكر آدم إسماعيل: هل العلمانية حالة غياب للدين (2-3) عبد الله علي إبراهيم*

 

أسفر الدكتور أبكر آدم إسماعيل في حجته على مطلبه بعلمانية الدولة أو فراق شعب النوبة للسودان عن خطئتين معلومتين في تبني المثقف في العالم الثلالث لخبرات الغرب مثل العلمانية.

الخطيئة الأولي هي أن هذه الخبرة الغربية مثل العلمانية منتج استكمل الغرب أركانه ولم يبق لنا غير أن “نشفه” منهم بالكربون. فقال أبكر في كتابه الذائع “جدلية الهامش والمركز” إن العلمانية قطيعة فكرية مع الماضي تحققت للغرب “حيث لم يعد هناك مفكر أوربي منذ عصر النهضة يختلف مع هذه المسلمة”. و”مسلمة” تكفينا في بيان ما أردناه من خطيئة “الشف” من خبرة الغرب. ولن نعدم بين المفكرين الاوربيين بالطبع من لم يقبل بالعلمانية كفكرة ناهيك كمسلمة.

أما الخطيئة الثانية فهي أن العلمانية، منى صارت مسلمة، منتج يمكن شتله في بلد مثل السودان بأعجل ما تيسر. فمتى طلبته نلته بحذافيره الأوربية لا تنقص خردلة. ونُضيع، متى تعاطينا مع الخبرة الأوربية كمنتج، السيرة الفكرية والسياسة الطويلة التي تضافرت على إنتاجه. ومع ذلك فأبكر ربما كان أحسننا أدراكاً لهذه السيرة الخلاقة من وراء المنتج الأوربي. فثبّت في كتابه السبق ذكره أن وراء المنتج الأوربي “نضالات فكرية وسياسية صابرة من خلال نقد وهدم الوضعيات القديمة أي ما يسمى بالعصور المظلمة. أدت تلك النضالات إلى القطيعة مع الماضي، ووضع أسس جديدة قامت عليها النهضة والتقدم الذي ما يزال مستمراً”. ولعله من الصعب القول إننا قد ركبنا حتى تاريخه هذا المركب الأوربي الخطر في القطيعة مع الوضعيات القديمة أو بذلنا بذل المفكر الأوربي. ولن يزعم أبكر لنفسه ارتكاب هذه القطيعة مع صنميات الماضي وهو يزكي لنا الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل (الختمية) في القاهرة في سبتمبر الماضي بقوله إنه هو “الحزب الوحيد الذي تقدم خطوات إلى الأمام في القضايا الأساسية التي تمثل أولوية للشعبية وهي معضلة الهوية وعلاقة الدين بالدولة”. ويؤسفني ألا أصدقه وكفى.

تجري منذ عقدين أو ثلاثة مراجعات أوربية لعلاقة العلمانية والدين استبعدت النبوءة الحداثية بأن مصير الدين إلى زوال ب”موت الإله”. ولن يبقى سوى وجه العلمانية كنهاية التاريخ. وهذه الفكرة في قرارة فكر جمهرة الحداثيين عندنا. وهي الفكرة التي من وراء ضيقهم الكئيب نافد الصبر بالثيوقراطية الإنقاذية. وتعلقهم غير الذكي بسؤال “من أين جاء هؤلاء؟” وجه من وجوه استنكارهم خروج الإسلاميين من غيهب التاريخ لدست الحكم. وليس وصفهم للإسلاميين ب”الظلاميين” بلا معنى. ففي المصطلح صدى من العصور المظلمة الأوربية التي سيطر فيه التاريخ المقدس حتى طعنته العقلانية والنهضة والاستنارة والإصلاح الديني والعلمانية طعنات نجلاء. ونعيت على الحداثيين مراراً إضرابهم الإجابة على سؤال الطيب صالح الأشهر لا تكراره احتجاجاً. فلو توافروا على الإجابة لعرفوا أنهم لحالهم، في سيرة للعلمانية، التي طلبوها منتجاّ حاضراً، لا مهرب منها مرت بمثلها أوربا حتى رأت العلمانية في نهاية النفق. وكنت أقول لهم لا تستكثروا مشوارنا ثلاثين عاماً (لو لم نضف لها سنوات جمهورية نميري الإسلامية الثلاث) في نفق “الظلامية” لنرى النور في نهايته.

فلقد رأى شعبنا خلال ثيوقراطية الإنقاذ وعن كثب وبتعب جم متاعب الدولة في الدين والعكس. وتوصلوا بغير إعلان ولا مصطلح (لم يكن بينهم مثقفون يُطَعمون فطرتهم بالنظر السياسي والفكري) لوجوب وقاية الدين من الدولة ووقاية الدولة من الدين. ولا يُقيم هذا الحساسية السياسية العلمانية الفطرية إلا مثلي من عاش عقد الستينات وتقطعت علمانيته على رأسه. وهو العقد الذي شحذ فيه مفهوم الدولة الإسلامية خيال كثير من الناس كانوا من وراء النجاحات الكبرى للحركة الإسلامية حتى حدث ما حدث. وسمى أستاذنا عبد الخالق محجوب هذا المخيال ب”اليوتوبيا” في الشوق لعصر النبوة النضر في مقالات عن منشأ الدعوة للدستور الإسلامي بعد ثورة أكتوبر نشرها في جريدة اخبار الأسبوع. ومتى فكرت في هذه المقالات الآن بدا لي أن أستاذنا سبق في 1968 إلى الإجابة على سؤال الطيب صالح في 1989 كما لم يفعل المعاصرون.

وجدت في مقال لكريق كالهون، من المراجعين لعلاقة العلمانية والدين، مادة طيبة أعرضها هنا لنتفهم بصورة ناقدة مطلب علمانية الدولة في نسخته الحداثية عند أبكر وغيره. فقال كالهون إنه غالباً ما اخذنا العلمانية كحالة غياب. فهي في نظرنا ما يتبقى لنا متى تلاشى الدين. فهي استبعاد للدين من الفضاء العام ولكنها، أي العلمانية، محايدة في حد ذاتها. وهذا قول مضل في نظره. فالعلمانية حَرِية باستبطانها بالفكر كحالة ملتبسة بالدين لا حالة غياب للدين. ونواصل

سيدي جعفر الميرغني والحلو: ابو هاشم حوض العاشم

مقالات ذات صلة