يعدُ كتاب الايام لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين 1889 -1973م، واحداً من اشهر كتب السيرة الذاتية في الثقافة العربية في التاريخ المعاصر. ولعل من آيات شهرته وانتشاره الواسع، أنه قد ظل مقرراً على الدوام ولعقود طويلة، من ضمن منهج المطالعة على طلاب المدارس الثانوية عندنا بالسودان على سبيل المثال فقط، وربما في غيره أيضاً من أقطار الوطن العربي الكبير.
أما كتاب ” من حقيبة الذكريات ” للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب 1921 – 2003م، استاذ اللغة العربية والادب العربي بجامعات لندن والخرطوم وعبد الله بايرو بنيجيريا وسيدي محمد بن عبد الله بفاس بالمملكة المغربية، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومؤسس ورئيس مجمع اللغة العربية بالسودان، والحاصل على جائزة الملك فيصل للأدب العربي في عام 2000م، فهو أيضاً كتابٌ في السيرة الذاتية، نشره الدكتور عبّد الله الطيب رحمه الله، في نحو عام 1983م، لكي يكون بمثابة الجزء الثاني من سفر سيرته الذاتية، التي كان قد أصدر الجزء الأول منها في حوالي منتصف ستينيات القرن الماضي، تحت عنوان: ” من نافذة القطار “.
وكم تمنيت لو أن الهيئة الوقفية لطباعة ونشر أعمال العلامة عبد الله الطيب، وعلى رأسها عضو هذه الهيئة تلميذه الهمام والوفي الدكتور الصديق عمر الصديق، مدير معهد عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم، قد عمدت إلى جمع هذين الجزئين لكي يصدرا معاً في مجلد واحد، ولا بأس ان جاءا بعنوانيهما الأصليين واحداً تلو الآخر بوصفهما عنوانين جانبيين، على أن يكون عنوان المجلد نفسه مثلا: السيرة الذاتية للعلامة عبد الله الطيب.
وبمناسبة حلول الذكرى الخمسين في هذا العام الحالي 2023 ، لرحيل الدكتور طه حسين الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى في 28 اكتوبر 1973م، والذكرى العشرين لوفاة الدكتور عبد الله الطيب التي حدثت بتاريخ 19 يونيو 2003م، وددت أن أدندن حول انطباعاتي الشخصية عن هذين الأديبين العلمين، انطلاقا من بعض نظرات عجلى إلى سفريهما اللذين مرّ ذكرهما آنفا، اعني ” الايام ” لطه حسين، و ” من حقيبة الذكريات ” لعبد الله الطيب، وذلك على سبيل نوع من المقابلة والمقارنة، خصوصاً وأن بين هذين العالمين والأديبين العلمين أكثر من صلة وعلاقة جامعة.
فكلا هذين الأديبين العالمين ذائعي الصيت على نطاق الوطن العربي وخارجه نوعاً ما، قد ارتبطا معرفياً ومهنياً بتعلم اللغة العربية والادب العربي وتعليمهما ، والبحث والتأليف في مجاليهما ، وتقديم الاحاديث والمحاضرات الفصلية والعامة في مضمارهما، طوال عمريهما المديدين نسبياً ، سواء داخل قاعات الجامعات، او من خلال سائر وسائل الإعلام المتاحة، حتى اصبحا ” نجمين ” شهيرين على طريقتهما.
كذلك يشترك هذا العلمان في الخلفية الاسرية ، وأجواء الطفولة التي عاشها كل منهما، فطه حسين عاش في اسرة تقليدية محافظة في ريف صعيد مصر، تعلي من شأن التعليم الديني، وتوقر العلم والعلماء، وتدفع بأبنائها دفعاً نحو الدراسة بالكتاتيب ومنها مباشرة إلى الأزهر الشريف بالقاهرة لكي يصيروا شيوخاً وعلماء يشار اليهم بالبنان. اما عبد الله الطيب، فقد نشأ في اسرة دينية صوفية محافظة، تقوم هي نفسها على تدريس القرءان والعلم والفقه، وتسليك المريدين في الطريقة الشاذلية، فدرج في ذلك الجو الديني الصوفي منذ طفولته، وجعل يعشو إلى ضوء نار القرءان منذ ان انفتحت عيناه على الدنيا. وقد قال صنوه وابن عمه الشاعر ” محمد المهدي المجذوب ” في ذلك:
النارُ أوقدها عيسى وشاركني
فيها ابنُ بيرقَ أسراري وأنفاسي
وقد قيل ان المقصود بابن بيرق هو عبد الله الطيب نفسه، نسبه إلى جد له كان يلقب ببيرق. واما عيسى المذكور هنا، فهو الشيخ عيسى ولد قنديل، وهو الجد الأعلى لعشيرة المجاذيب التي ينتمي اليها الشاعر المجذوب وابن عمه عبد الله الطيب.
وكما اشترك هذان العلمان في البيئة الاسرية والتكوين المعرفي الديني والتقليدي في الطفولة، فقد اشتركا أيضاً في ان كليهما قد تعرض لتأثير قوي ومؤثر في تكوينه المعرفي والثقافي من قبل الغرب الأوروبي، ممثلا على التوالي في فرنسا التي درس بها طه حسين بعد ان كان قد درس من قبل بالجامعة المصرية، حيث عاد من باريس محملا بدرجة الدكتوراه في عام 1914م، وفي بريطانيا التي عاد منها عبد الله الطيب إلى السودان بعد ان حصل على الدكتوراه من جامعة لندن في عام 1950، بعد ان كان قد اكمل دراسته الثانوية بكلية غوردون التذكارية بالخرطوم في عام 1941م.
نشأ عبد الله الطيب كسائر ابناء جيله في جميع ارجاء الوطن العربي، مفتوناً بعلم طه حسين وأدبه وفكره، وخصوصاً بإنشائه وأسلوبه في المحاضرة والتأليف. ولذلك عندما الف عبد الله الطيب كتابه العمدة في بابه ” المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ” في نحو عام 1955م، وهو حينئذ محاضر بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، عمد رأساً إلى عميد الادب العربي الدكتور طه حسين لكي يكتب له تقديماً لذلك الكتاب. وبالطبع فقد اعجب الدكتور طه حسين بكتاب عبّد الله الطيب ايما اعجاب، فكتب له تقديماً باذخاً، كان بمثابة جواز المرور بالنسبة لعبد الله الطيب في عوالم المعرفة والادب والفكر في الوطن العربي.
ولاحقا في عام 1961م، سوف يرشح الدكتور طه حسين الذي كان حينها، رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الدكتور عبد الله الطيب لعضوية ذلك المجمع، الذي كان يضم جهابذة العلماء والادباء حينئذٍ، فاعتمد منذ ذلك التاريخ عضوا عاملاً بالمجمع، إلى تاريخ وفاته في عام 2003م.
وكان عبد الله الطيب يحتفظ لطه حسين بود عامر وامتنان وافر طوال حياته، لكون انه هو الذي نوه بذكره، وفتح له ابواب الشهرة والتميز التي يستحقها بكل تأكيد. وكانت بينهما بعض الطرائف والمفاكهات التي نذكر منها على سبيل التمثيل ، انه عندما نفذ الرئيس الراحل جعفر نميري انقلابه العسكري الشهير في 25 مايو 1969م، سافر عبد الله الطيب بعد اسابيع قليلة من وقوع ذلك الانقلاب إلى القاهرة، لحضور جلسات مجمع اللغة العربية هناك. قالوا فأراد الدكتور طه حسين أن يمازح عبد الله الطيب فقال له: يا دكتور عبد الله، ما خبر هذا النميري الذي ظهر عندكم ؟ فرد عليه عبد الله الطيب فوراً قائلاً:
فلما رأت ركبَ النُميريِ أعرضتْ
وكُنّ من أن يلقينهُ حذراتِ
فانفجر العميد ضاحكاً بصوته الجهوري المميز، وقد فهم الطرفة مباشرةً بالطبع.
والبيت من قصيدة للشاعر الاموي محمد بن عبد الله الثقفي، المعروف على نحو أكثر بلقبه ونسبته ” الراعي النُميري “، تلك التي يشبب فيها بزينب بنت يوسف الثقفية، شقيقة القائد المتسلط الشهير ” الحجاج بن يوسف “. ومطلع القصيدة هو:
تضوّع مسكاً بطنُ نَعمانَ أن مشتْ
به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ
ومعنى جواب عبد الله الطيب على طه حسين، هو أن يا دكتور طه حسين ، ايها العميد ورئيس مجمع اللغة العربية، أعرض انت ايضا عن الخوض في هذا الشأن السياسي الذي لا قبل لنا به، ودعنا مع الخليل وسيبويه والمبرد وهلم جرا !.