عمر البشير لم يكن يومًا رجل دولة.
كان مشروعًا للخراب، ومنصةً طويلة لبناء دولة موازية من الدم، ووسيلة لحكم السودان كما يحكم الجلاد زنزانته: بالخوف، والقهر، والإذلال.
منذ أول يوم علي انقلابه الأسود، فهم الرجل شيئًا واحدًا:
الشعب عدو، والجيش خطر، والحركات المسلحة تهديدٌ وجودي لسلطته… لذلك يجب قمع الجميع بالحديد والنار.
البشير… الطاغية الذي ربّى حميدتي ليضرب به الشرفاء
لم يربِّ البشير حميدتي لأنه مؤهل أو منضبط أو وطني.
ربّاه لأنه النوع المثالي من الرجال الذين يحتاجهم الطغاة:
جاهل،عديم الولاء للدولة،
عديم المشروعية،
لا يعرف القانون،
ولا يحترم المؤسسات،
ولا يردعه شرف أو قيم أو انتماء.
كان البشير يعرف أن الحركات المسلحة — رغم خلافه معها — تمتلك انضباطًا، وقيادات، ومبادئ، وولاءً للأرض قبل السلطة.
كان يعرف أنها، رغم السلاح، أكثر شرفًا من أمنه، وأكثر التزامًا بأخلاق الحرب من مليشياته.
كان يعرف أنها يمكن أن تختلف مع الجيش… لكنها لا تخونه، ولا تطعنه، ولا تغتصب نساء وطنها، ولا تبيع الأرض لمصالح شخصية.
ولذلك… ربّى حميدتي.
ربّاه خصيصًا ليكون العصا التي يضرب بها الحركات المسلحة.
ربّاه ليواجه الشرفاء بوسخ المليشيا.ربّاه ليقمع من رفضوا ظلم الخرطوم وتهميشها.
ربّاه ليحرق القرى، ليكسر الجبال، ليمحو الذاكرة.
ربّاه لأنه كان يحتاج وحشًا… لا مقاتلًا.
يحتاج جريمةً تمشي على قدمين… لا قائدًا له قيم.
لكن المفارقة العظمى حدثت…
الحركات المسلحة التي أراد البشير إذلالها،
التي وصفها بأعداء الدولة،
التي حاربها طوال سنوات،
التي أراد سحقها بمن تربّوا في حضنه…
هي التي أثبتت أنها أشرف وأعظم وأبقى من نظامه كلّه.
حين انهارت الدولة، وقعت الكارثة الكبرى، واشتدّت الحرب:
الحركات المسلحة وقفت مع الشعب.
وقفت مع الجيش.
وقفت مع الأرض والعرض.
لم تغدر،
لم تسرق،
لم تنهش المدن،
لم تتاجر بالجثث،
لم تغتصب النساء،
لم تحرق القرى،
لم تُجرّم الوطن…
بينما حميدتي — الطفل الشرعي للبشير — فعل كل شيء:
قتل
أحرق،
اغتصب،
نهب،
شرّد،
وسلّم السودان للخراب.
يا للمفارقة…
العدو أصبح وطنيًا،
وابن الدولة أصبح وحشًا.
البشير… مهندس الخراب الأكبر
جرائم البشير ليست صفحات منفصلة.
هي سلسلة واحدة مترابطة:
من تابت،
إلى كتم،
إلى وادي صالح،
إلى جبال النوبة،
إلى الجزيرة،
إلى الخرطوم،
إلى كل مدينة سودانية سالت فيها دماء الشرفاء.
هو من غطّى الاغتصابات في بيوت الأشباح.
هو من أعطى الحصانة للقتلة.
هو من صفّى الطلاب والمعارضين.
هو من دمّر الجيش ليسهل عليه الحكم.
هو من سرّح الكفاءات واستبدلهم بالولاء لا بالخبرة.
هو من أدخل الفساد إلى مؤسسات الدولة حتى تعطنت.
هو من مزّق الاقتصاد ودمر مشروع الجزيرة.
هو من جعل السودان ساحة للنهب المنظم.
وهو — فوق ذلك — من أدخل حميدتي إلى قلب هيئة العمليات.
الدول التي تحترم نفسها لا تسمح لأجنبي بدخول مفاصل الأمن…
فكيف أدخل البشير زعيم مليشيا بدائية إلى غرفة أسرار البلد؟
كيف سلّم جهازًا حساسًا مثل هيئة العمليات لرجلٍ لا يعرف حتى معنى أمن الدولة؟
كيف منح قاتلًا مفاتيح الوطن؟
ثم أطلقه في وجه الشعب
وعندما اكتمل البناء الشيطاني…
أطلق البشير الوحش.
أطلقه على دارفور،
على النيل الأزرق،
على كردفان،
على الخرطوم.
لم يكن ذلك خطأ…
كان قرارًا سياسيًا،
قرارًا للتدمير،
قرارًا لحماية العرش،
قرارًا متعمدًا لقتل وطنٍ كامل.
واليوم… يقف البشير معزّزًا مكرّمًا
والمأساة أن هذا الطاغية الذي دمّر السودان،
يعيش اليوم داخل حماية،
تحت رعاية،
بامتيازات،
محروسًا كأنه زعيم دولة محترمة…
بينما ملايين السودانيين مشردين ، نساء مغتصبات، وضحايا بلا عدّ ولا حصر.
أي عدالة هذه؟
أي وطن هذا الذي يحرس القاتل ويترك الضحايا؟
أي قانون هذا الذي يمنح السفاح حصانة، بينما لا يجد النازح في الفاشر قطرة ماء؟
لن تُصلح هذه البلاد ما لم تُفتح الملفات كلها، وتُكسر جدران الصمت كلها، ويُحاسب كل من شارك في إدخال حميدتي إلى قلب الدولة.
يجب — نعم يجب — أن يغادر فورًا كل من كان داخل هيئة العمليات وشهد دخول حميدتي إليها وصمت، كل من رأى الجريمة تُزرع داخل جسد الدولة ولم ينطق، كل من خضع، كل من تجابن وطأطأ للبشير ، كل من شارك بالصمت أو التواطؤ أو الخوف.
السودان لن ينهض بوجود من صنعوا الخراب، ولا بمن باركوا دخول القاتل إلى أخطر أجهزة الدولة، ولا بمن عاشوا عهد الفوضى ولم يعترضوا.
التطهير واجب.
المحاسبة واجبة.
وإعادة بناء الدولة تبدأ من تنظيف قلبها… قبل ترميم جسدهاوهذا السؤال ليس موجّهًا للبشير وحده… بل موجّه لكل رجل داخل هيئة العمليات شهد دخول حميدتي ولم يغلق الباب في وجهه.
كل من شهد عهد الفوضى…
كل من فتح الباب…
كل من سكت…
كل من عرف وسكت…
كل من رأى الخراب ولم يقل كلمة…
كل من علق البشير وسامًا على صدره وهو يعلم…
كل الذين يعلقون اليوم رتبًا لا يستحقونها…
هؤلاء يجب أن يغادروا فورًا.
لا نهوض للدولة وداخلها من عاش علي خيانة الدولة.
لا أمن مع رجال خذلوا الأمن.
لا مستقبل لأجهزةٍ شهدت سقوطها من الداخل.
هيئة العمليات يجب أن تُطهَّر…. تطهيراً كاملا يعقبه تعقيم للمؤسسة بأقوي المنظفات لكي لا يترك طفيل داخلها ينقل العدوي الي القادمين الجدد
أيُّ منطقٍ هذا؟ أيُّ عدالةٍ هذه؟ أيُّ بلدٍ في الدنيا يسمح لرجل خرّب وطنه، مزّق نسيجه، سلّم مفاصل دولته لمجرمٍ جاهل، وترك وراءه بحيراتٍ من الدم… أن يعيش الآن محروسًا، مكفولًا، محاطًا بعناية الدولة؟
أيُّ دولةٍ هذه التي تحمي الجلاد وتترك الضحايا في المخيمات؟
أيُّ دولةٍ هذه التي تبسط ظلها فوق قاتلٍ صنع الخراب بيديه، وتترك اليتامى يبحثون عن القبور وسط الرماد؟
ماذا فعل البشير؟
فعل كل ما لا يفعله بشر.
فعل ما يكفي لأن يُساق إلى محكمةٍ لا يراها الضوء مرة أخرى.
هذا الرجل الذي تُحرس أبوابه اليوم، هو نفسه الذي بنى سلطانه على دماء البشر.
هو الذي بدأت أولى سنوات حكمه بمجازر الجنوب، ثم وقّع على جبينه أكبر جريمة في تاريخ السودان: إبادة دارفور.
هو الذي سمح باغتصاب نساء تابت على يد أجهزته، وغطّى على الجريمة، وهدد الضحايا، واعتقل من حاول أن يرفع الصوت.
هو الذي جعل الاغتصاب منهج حكم، والقتل سياسة، والجلاد موظفًا عامًا.
هو الذي ملأ السجون بالمعتقلين، وبالمعذبين، وبالأصوات الحرة التي أراد إسكاتها.
هو الذي قُتل تحت عهده معارضون في الزنازين، ودُفنوا بلا أسماء، وخرجت أمهاتهم يحملن صورًا باهتة ويعدن بلا جواب.
ومع ذلك…
اليوم تُحرس بابه الدولة.
نعم، الدولة هي التي تحرسه.
من ماذا؟
من الشعب الذي سُحق؟
من الأمهات اللواتي بكين أولادهن؟
من التاريخ الذي لن يسامحه؟
لكن الجريمة الأكبر لم تكن المجازر وحدها…
الجريمة الكبرى التي كسرت ظهر السودان كانت حين ربّى البشير حميدتي كما تُربّى الأفاعي، وحين سلّمه ظهر البلاد، وسلمه ذهبها، وسلمه أرضها، ثم فتح له أبواب هيئة العمليات — قلب الدولة الأمني — ليفعل فيها كما يشاء.
أدخله رغم جهله، رغم تاريخه الدموي، رغم أن كل أجهزة الدولة كانت تعرف أنه ليس رجل أمن ولا دولة… بل رجل غابة، وسيف سلطته، وسوطه الذي يضرب به الشعب.
لماذا فعل ذلك؟
لأنه كان يكره الشعب.
كان يعرف أن الحركات المسلحة — التي قال إنها “عدوه” — أكثر شرفًا منه ومن أمنه.
كانت أشرف لأنها لم تغتصب النساء، ولم تقتل الأطفال، ولم تحرق القرى، ولم تساوم على الأرض.
كانت أشرف لأنها حين جاءت لحظة الحقيقة… وقفت مع الشعب، ومع الجيش، ومع الوطن.
فأراد البشير أداةً بلا وطن، بلا ضمير… فأوجد حميدتي، وربّاه بيده، وأطلقه على السودان كالكلب المسعور.
ثم سقط البشير…
لكن بقيت الدولة — دولة الظل، دولة الولاء القديم، دولة الصمت — التي لا تزال تحميه.
نفس الدولة التي صمتت حين دخل حميدتي هيئة العمليات، هي نفسها التي تحمي البشير اليوم.
نفس القيادات التي شاهدت الخراب ولم تتحرك، هي نفسها التي تجلس على مقاعدها الآن وكأن شيئًا لم يحدث.
فأي حق يمنح البشير هذه الحماية؟
أي دستور يشرعن بقاءه في مكانٍ لا يستحق أن يراه؟
أي قضاء يغمض عينيه عن دماء مئات الآلاف؟
أي أمنٍ هذا الذي يحرس رجلًا دم الشعب بأكمله ملعق على رقبته؟
العدالة لا تكون بعدد البيانات،
ولا باللجان،
ولا بالتصريحات.
العدالة تبدأ من هنا:
تحرير الدولة من الذين صمتوا، والذين شاركوا، والذين سمحوا للقاتل أن يدخل هيئة العمليات.
كل من شاهد تلك اللحظة يجب أن يُحاسب.
كل من رأى حميدتي يعبر بوابة الأمن ولم يصرخ… شريك في الجريمة.
كل من عرف ولم يتكلم… شريك.
كل من سكت خوفًا أو طمعًا… شريك.
السودان لن يقوم على أكتاف المرتجفين.
أما البشير…
فحمايته اليوم ليست حماية له، بل فضيحة للدولة.
فضيحة أمام النازحين، أمام اليتامى، أمام المقابر الجماعية، أمام النساء اللواتي اغتُصبن، أمام الأطفال الذين دُفنوا في رمال دارفور، أمام جثث الجزيرة، أمام صرخات الخرطوم ،أمام صرخات الاطفال في الفاشر
كيف يعيش محروسًا، ومن يحرسه؟ ولماذا؟
هذا السؤال يجب أن يُسأل بصوتٍ عالٍ حتى يرتجف القصر:
من يحمي البشير… يحمي الجريمة.
ومن يحمي الجريمة… شريك فيها.
السودان لن يقوم حتى يُوضع البشير أمام القانون،
وحتى تُقتلع جذور الدولة التي تحميه،
وحتى يغادر كل من رأى الخراب ولم يحرك ساكنًا.
هذه ليست سياسة…
هذه معركة شرف وطن.




