بعد كل النقاشات السابقة عن السياسات المالية والنقدية، وعن كيف دمّرت هذه السياسات الاقتصاد السوداني بسبب غياب الإنتاج والرقابة، يصبح السؤال المنطقي:
*ما الذي يجعل السياسات تنجح أو تفشل؟*
الجواب في كلمة واحدة: *الحوكمة.*
بدون حوكمة،
السياسة المالية تتحول إلى جباية،
والسياسة النقدية تتحول إلى طباعة، والاقتصاد كله يتحول إلى *فوضى منظمة.*
لهذا، الحوكمة ليست تحسينًا…
بل هي قاعدة اللعبة.
*ما هي الحوكمة؟*
الـ Governance ببساطة هي:
طريقة إدارة الدولة أو المؤسسة بحيث تكون قراراتها واضحة، عادلة، شفافة، قابلة للمحاسبة، وتخضع للقانون وليس للأمزجة.
*وتعني 5 أشياء محددة:*
1. الشفافية: كل مال يدخل أو يخرج… معروف.
2. المساءلة؛ المنصب ليس حصانة… بل مسؤولية أمام القانون.
3. سيادة القانون: قانون واحد على الجميع… لا تفصيل حسب الأشخاص.
4. الكفاءة: التعيين على أساس القدرة… لا الولاء.
5. الإجراءات الصحيحة: قرارات مبنية على بيانات… لا على المزاج.
هذه العناصر الخمسة هي التي جعلت دولًا فقيرة مثل رواندا تصبح معجزة إفريقية. وهي نفسها التي صنعت نهضة كوريا وماليزيا وسنغافورة.
*ما هو أثر الحوكمة على الاقتصاد؟*
1 – تمنع الفساد: كل دولار يُسرق = 10 دولارات يُضرب بها الاقتصاد. الشفافية وحدها قادرة على تقليل الفساد بنسبة 40% حسب البنك الدولي.
2 – تخفض تكلفة الأعمال: في السودان اليوم، تكلفة العمل أكبر من تكلفة الإنتاج بسبب الجبايات والرسوم والفوضى. الحوكمة تنظّف الطريق.
3 – تجذب الاستثمار: الاستثمار يحب مكانين؛
الاستقرار والقانون. بدونهما لا يأتي حتى لو كانت الموارد في الأرض ذهبًا.
4 – تحفظ قيمة العملة العملة لا تسقط وحدها… تسقط عندما يفقد الناس الثقة في المؤسسات. الحوكمة تبني الثقة، والثقة تبني الجنيه.
5 – ترفع كفاءة القطاع العام: بدل من 300 ألف موظف بلا إنتاج،ويمكن لــ 50 ألف موظف مدرَّب أن ينهضوا بالدولة كلها.
6 – تمنع التشوهات في السوق، التشوهات مثل:
– اقتصاد الظل
– الاحتكار
– التهريب
– تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ
هذه كلها تختفي عندما تكون هناك قوانين واضحة تُطبّق على الجميع.
7 – تجعل أي سياسة مالية أو نقدية تنجح. السياسة التي تُنفّذ في ظل حوكمة، تصبح أداة تنمية. أما بدون حوكمة، فهي مجرد كلام يموت عند أول مكتب حكومي.
لماذا يحتاج السودان للحوكمة الآن أكثر من أي وقت؟ لأن السودان بعد الحرب أمام لحظة فاصلة:
إمّا أن يعيد بناء نفسه على الأسس القديمة، المحسوبية، الجبايات، العشوائية، والفساد، وحينها سنعود لنفس الدوامة…
أو يبدأ على أساس جديد، حوكمة تحكم… وقانون يُطبّق… ومؤسسات تعمل.
لأن الحوكمة:
تقوي الجيش بالقانون
تقوي الاقتصاد بالإنتاج
تقوي الدولة بالمؤسسات
وتقوي المواطن بالثقة
ولا توجد نهضة في العالم بدأت بالموارد… كل النهضات بدأت بالحوكمة.
*الخلاصة:*
الاقتصاد لا ينهض بالذهب ولا بالبترول ولا بالصمغ ولا بالثروة الحيوانية…
هذه كلها أدوات.
الاقتصاد ينهض عندما تكون هناك:
دولة تعرف إدارة مواردها، ومؤسسات لا تخاف من الشفافية، ومسؤولون يخافون من القانون… لا من الناس.
هذه هي الحوكمة…
وهذه هي أول خطوة نحو نهوض السودان بعد الحرب.
*اللهم حوكم السودان قبل أن تحوكم القلوب، وحوكم إدارتنا كما تحوكم أقدارنا، واجعل للعدل سلطانًا لا يُكسر، وللقانون هيبة لا تُهان، وللمؤسسات قوة لا تُساوم، وللوطن بابًا لا يُفتح للفساد ولا يُغلق في وجه الحق.*
اللهم أصلح حال البلاد والعباد،
وألهمنا إدارةً تُنقذ لا تُهلك،
وتخطيطًا يبني لا يهدم،
ونفوسًا تخافك في كل قرار
آمين.
✍🏼 قاسم…
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥



