درج صديقنا عمار نجم الدين في الآونة الأخيرة، تحديدا منذ نشوب هذه الحرب، على التعرض لمواقفي إزاء هذه الحرب، وهي المواقف المشفوعة بشرح وتحليل إحداثياتها، ليس فقط بعد اندلاع الحرب، بل من قبل ذلك بسنوات فيما تشهد به وسائل التواصل في عصر العولمة. وبالطبع ليس في ذلك أي غضاضة، ذلك لو أنه شفع مواقفه تجاهنا بمثلما شفعناها بالشرح والتحليل. ولكن الملاحظ أن ما يكتبه أخونا عمار نجم الدين بخصوص مواقفي هذه ليس فيه أي قدر من شروط الكتابة النقدية التي يتوجب عليها أن تشمل على أقل تقدير العناصر الأربعة التالية:
*1) توصيف الحالة المراد نقدها توثيقا يرضى عنه أصحابها. والحالة هنا يقصد بها الكلام أو الكتابة أو الموقف السياسي أو الفكري، ويبدأ بالاسم، اسم الشخص/الأشخاص أو الجهة/الجهات.*
***
*2) تحديد مفاصل الحِجاج المراد نقدها، ليس فقط بدرجة من شأنها أن تجعل الشخص غير المتابع قادرا على الإلمام بوجهات النظر المراد نقدها، بل تجعل صاحب وجهات النظر هذه راضيا عن الطريقة التي تم بها استعراض وجهات نظره، أي دون تشويه أو تزوير أو اختصار مخل، أو تقويل ما لم يقله. وهذا يتحقق عبر اتباع مناهج الاقتباس المعروفة، باستخدام علامات تنصيص الاقتباس … إلخ.*
***
* ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن هذين الشرطين يقعان في باب الأمانة والنزاهة اللازمتين أخلاقيا وعلميا. وليكن في العلم بأن عدم الإيفاء بهذين الشرطين جهلاً بهما لهو أسوأ من تجاهلهما علما بهما. فالمتجاهل لهما مقتدر ذو غرض، بينما الجاهل ُ بهما غير مقتدر وفي نفس الوقت يقارف ذات خطيئة ذي الغرض جهلا. وأبعدُهم سوءا ذلك الذي لا يرعوي إذ تأخذه العزةُ بالإثم.
***
ثم نعود إلى استعراض الشرطين الثالث والرابع، وهما يقعان في باب الدُّربة والقدرة على نقد من حيث امتلاك “عدة الشغل” (شغل النقد). ولعله أيضا من نافلة القول بأن النقد دائما تفكيكي، تشريحي، تفصيلي، وليس إجماليا بطريقة البيع بالجملة wholesale method، ذلك لأنه أدخل في علم تحليل الخطاب Discourse Analysis من حيث هو كلمات ذات دلالات قاموسية Lexical Semantics أولية قابلة لاحتمال دلالات أخرى سياقية Contextual Semantics، ثم مجمل الإحالات والإسقاطات Projection المتوائمة شخصيا Personal Conveniences. جميع هذه تخضع للنقد عبر إيفاء الشرط الثالث أدناه، بما يخدم كأرضية علمية قوية لإيفاء الشرط الرابع أدناه.
***
*3) تحليل هذه النصوص، أولا عبر تفكيكها وتشريحها، أي بتفصيل ودون أي طريقة للتعامل معها بالجملة، بدءاً بتوضيح فرضياتها وكيفية بنائها لمنطقها الداخلي، من حيث استيفائها لاستقصاء بياناتها وبيناتها وأدلتها. ثم بعد هذا تبيان أوجه التناقض بما يطعن في التأسيسات المنطقية لهذه النصوص، ومن ثم تجريدها من أي تماسك منطقي تدعيه.*
***
*4) الاستنتاجات المستخلصة من هذا التحليل التشريحي لهذه النصوص التي يقوم عليها عماد الخطاب في كلام أو كتابة الشخص المعني.*
***
هذه هي أسس النقد العلمي بما يشهد على توافر قدرات التفكير النقدي. وبخلاف هذا يمكن وصف الكلام (أو الكتابة) حول أي موقف بأي شيء، لكن لا يمكن وصف الكتابة (أو الكلام) بأنه مما يقع في باب النقد بصورة عامة، دع عنك تميزَه بصفة التفكير النقدي. وكذلك لعله من نافلة القول بأن أعجز الناس طُرّا عن الإتيان بالكتابة النقدية والفكرية هو ذلكم الشخص الذي ليست لديه القدرة على الاستخدام الكافي والجيد للغة، ولا القدرة على التعبير عن نفسه. ولعله من نافلة the person who has neither the command of the language nor the ability to express himself (وصديقنا منقو بأستراليا يعاني من كلتا النقيصتين بكل حق وبكل أسف).
***
وعليه، فإن توصيف ما يلمز به ويغمز إليه صديقنا عمار نجم الدين لا يخرج عن كونه أحد أمرين:
* *الأول،* كونه نوعا من “الردح” المكتوب بلغة لا هي فصيحة ولا هي عامية، هي فقط لغة ركيكة. وخطورة هذا النوع من “الردح” تعويله على الغمز واللمز والتحريض تعريضا، لا تصريحا، بما من شأنه أن يصنع رأيا عاما سلبيا تجاه شخص، أو قضية، دون أي تأسيسات مبنية على الحقائق أو على المنطق. ولعمري هذه هي أخطر أسلحة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية فيما شهدناه من صرعات الكيزان ضد خصومهم.
***
* *الثاني،* أن صديقنا عمار نجم الدين ليس سوى شخص مغبون. وجانبا عن أن “المغبون غير فَطِن”، فإن هؤلاء المغبونين اليوم في هذه الحرب لدرجة ألا يجدوا تبريدةً لنار غبنهم التي تحرقهم في داخلهم مندوحةً من التشفي جنجويديا في هذا الشعب المهدد في وجوده كشعب سوداني، وكذلك مهدد في وجود مؤسسة دولته الوطنية بوصفها جمهورية السودان المستقلة، ذات السيادة. ومما شهدنا وعايشنا، فيما خبرناه من تجربة الكيزان قبل وصولهم إلى الحكم وخلال سنوات حكمهم، فإن أكثر ما ميّزهم سلبا هو هذا الغبن الأيديولوجي الإسلاموعروبي تجاه الشعب السوداني وتجاه مؤسسة دولته الوطنية التي لم يتركوا من سبيل إلى إضعافها إلا وانتهجوه. وما هذه الحرب المفروضة على الشعب السوداني إلا من نتاج فعائلهم النكراء.
* وتشهد كتاباتي منذ سنوات قبل اندلاع الحرب بجملة أشياء، على رأسها القول بأن الصف الأول من سدنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية (الكيزان والطائفيون والسلفيون والتكفيريون …) قد انتهى زمنهم واستنفدوا طاقتهم عبر الثلاثين عاما من نظام حكم الكيزان، وأكثر من ذلك منذ الاستقلال. ولم يبق غير أن يبرز للأمام الصف الثاني من سدنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، وهم قطاعات عريضة (باستثناء قطاعات القابضين على جمر القضية عن حقٍّ وحقيقة) من طبقة الأفندية ونخب دولة ما بعد الاستعمار ممن يتوزعون مختلف جنبات المسرح الاجتماعي والسياسي، فإذا فيهم المنتمي إلى بيوتات الطائفية، لكنه يزعم برفض ونبذ الطائفية ادعاءً للحداثة؛ وفيهم الماركسي الشيوعي، والماركسي غير الشيوعي؛ وكذلك الناصري والبعثي؛ والمستقلون، أكانوا ببينة عدم الانتماء، أم كانوا ببينة الانتماء لحركة مؤتمر المستقلين طلابا وخريجين؛ وفيهم وفيهم حتى الذين يدعون الانتماء لمشروع السودان الجديد وحركات الكفاح المسلح، أكانوا في هذا الجناح أم ذاك؛ بل فيهم من يرفعون عاليا وبصخب وضوضاء، دونما أي أضواء فكرية، ألوية وشعارات الآفروعمومية Pan Afrikanism … وهكذا إلخ.
* وقد جاء قولي في كتاباتي قبل الحرب بسنوات أن هؤلاء المنتمين حقيقةً لسدنة الصف الثاني من الأيديولوجيا الإسلاموعروبية هم الذين سوف يقومون بإتمام المهمة التي عجزت سدنة الصف الأول من إنجازه، ألا وهي تفكيك مؤسسة الدولة الوطنية السودانية. وليس أدل على هذا أن هذه القطاعات المسماة أعلاه هي التي شايعت (بعضها بسفور وبعضها الآخر متقنعين بأوراق الكلام المهترئ) مليشيات الجنجويد المجرمة التي أسسها الكيزان، وقبله الطائفيون، ثم لم يترك لهم الشعب فرصة كيما يكملوا إنجاز مهمتهم غير الوطنية، ممثلة في تسييل مؤسسة الدولة السودانية. ومن عجبٍ أنهم يشايعون مليشيات الجنجويد بحجة كيزانية الجيش، وما دروا أن مليشيات الجنجويد هي أنجز منجزات الكيزان وسنام كسبهم الأعلى خسرانا، بينما الجيش (على علاقته) سابق لتأسيس حسن البنا لتنظيم الكيزان.بل هم يتناسون شعارات الثورة المجيدة التي نادت بحل مليشيات الجنجويد ثم بإصلاح الجيش، وليس بحله. وإن تعجب، فأعجب بأن حل المشكلة عندهم هو العودة إلى شراكة الضرار مع ذات جيش الكيزان وذات مليشيات الجنجويد الكيزانية!
* ختاما، إنه لمن المؤسف أن ما يقوم به أخونا عمار نجم الدين من غمز ولمز وهمز وتعريض ليس له أي توصيف سوى أنه الوجه الآخر لذات العملة الأيديولوجية الإسلاموعروبية التي تعتمد على الهتافيات والعموميات، ثم لا تثمر، إن أثمرت، غير الحنظل والزقّوم، ذلك من حيث تغييب العقل وكل سمات التفكير النقدي. وليعلم صديقنا منقول بأستراليا أن مقالي هذا ليس مما يكتب في معرض الرد على تعريضاته وتهميزاته وتلميزاته، فهذا مما لا يُردُّ عليه إلا بمثله، وما كنا ذلك فاعلين، صونا عما يدنّس أنفسَنا. فالخطأُ لا يُقارع بالخطأ. ما نكتبه يا صديقي هو من باب اتخاذك نموذجا معمليا وعمليا نستخدمه في معرض الشرح والتعليم لناشئتنا حتى لا يتنكّبوا سواء السبيل، وحتى لا ينتهوا إلى ما انتهيت إليه من سوء المنقلب وسوء المصير. ثم حتى يعرفوا مَن بيننا ذا الذي يتكلم ثم يُلقي القولَ على عواهنه، ثم لا يبين دونه الحق والحقيقة. ذلك لأن من لا يزنُ الكلام، كان كمن يزني به؛ ومن يزني بالكلام، يُرجمُ بحجارة الكلام!
*MJH*
جوبا – 13 مارس 2024م