*خواطر اليوم 12 كتب: سراج الدين مصطفي (1)*

في الطابق الأرضي لجريدة الصحافة كان يوجد مكتب الأستاذ والصحفي الراحل سعدالدين ابراهيم وملاصقا له مكتب الاستاذ الحاج وراق .. كان مكتب الأستاذ سعد الدين ابراهيم يعج بالضيوف ومن كافة الاطياف و ذلك بعكس مكتب الاستاذ الحاج وراق الذي يميل للهدوء وعادة ما تجد مكتبه مغلق عليه وتلك طبيعة الحاج وراق أنسان هادئ ومرتب ويكتب فى أجواء صامتة تماما .. وشخصيا كنت كثير الجلوس مع أستاذى ومعلمى سعدالدين ابراهيم (جرح دنياى الذي لا يندمل) ولن أكون مغاليا أو وصلت حد المبالغة لو قلت بأننى أفتقده أكثر من أفراد أسرته .. وكان رحيله عن الدنيا بمثابة فاجعة كبرى وسببا في ألم متصل حتى لحظة كتابة هذا الحروف .. وفى مكتبه كنت ألتقى بكافة الشخصيات ذات الصلة بالصحافة والأدب والموسيقى والغناء .. ولكنى هنا تحديدا أتذكر لقائى بالموسيقار الراحل (بدرالدين عجاج) .. كان لقاءا حفيا وممتعا .. راجعنا فيه بالتذكار تجربته مع الموسيقار محمد الأمين حينما خاصمه بعض الموسيقيين وذلك تقريبا فى فترة السبيعينات وظل ملازما له فترة طويلة ..
(2)
كنت أرى في بدرالدين عجاج ملحن صاحب خيالي لحنى شاسع وواسع ومن الممتع حقاً تذوّق أعمال هذا الملحن العبقرى الذى له أسلوب متميز فى صياغة ألحان سودانية ثرية فى قوة جُملها اللحنية التى تعبر بقوة عن الروح الموسيقية السودانية الشعبية، وبناء ألحان عصرية على ايقاعاتنا التراثية بناءً رصيناً ومحكماً، وذلك لانه بكل بساطة هضم جميع الفنون السودانية القديمة التي سبقت جيله، وهو بذلك يختلف عن ملحني اليوم الذين يعتقدون انهم يصيغون ألحان مبنية على ايقاع سوداني كالتم تم أو السيرة أو الجراري أو المردوم أو الدليب و لكن يغفلون جانب مهم؛ التعبير اللحني عن مكنون الايقاع نفسه وذلك ما يتميز به بدرالدين عجاج وتمظهر ذلك بشكل أوضح فى أغنية (لمحتك) التى كتب كلماتها الشاعر عبدالقادر الكتيابى وتغنى بها مصطفى سيدأحمد ..
(3)
فى هذه الأغنية تحديدا تظهر القدرات اللحنية العالية لبدرالدين عجاج..فهي
أغنية ذات نمط كلاسيكى البناء والرومانسي الانتماء قد بلغ بها بدرالدين عجاج عوالم تعبيرية متجاوزة فى عمقها للمألوف فى تلحين القصيدة السودانية الطابع والمذاق.. والتى يعدّ عجاج مبدعا فيها وخلاقا لما يتميّز به من فهم عميق للنص وأبعاده ورؤاه وقدرته الفائقة على دفعه نحو آفاق أوسع وغايات أبعد. فبقدر ما يعبّر بدرالدين عجاج بدقة متناهية عن المعاني بقدر ما يكون متجاوزا حتى، لكأن موسيقاه تكتب نصها الخاص دون خيانة للنص الأصلي بل تدفعه الى آفاق تعبيرية جديدة بالغة الجمال والشعرية .
(4)
أغنية لمحتك ليس وحدها هى الشامة فى تجربته وأن كانت الأعلى صوتا ووصولا للناس لأن مغنيها هو مصطفى سيدأحمد .. والمبدع الراحل بدرالدين له ألحان اخرى بديعة ومتجاوزة وفى غاية الإختلاف أضاعها مع ٱبنته (نهى عجاج) التى حاول بها هزيمة ٱبنته المغنية (نانسى عجاج) ولكن كسدت تجربة نهى وبارت بينما أنتشرت تجربة نانسى وأنداحت بين الناس وأصبح لها قاعدة جماهيرية كبرى .. وبإسترجاع التاريخ نجد أن ثمة موقفا مشابه .. حينما دب الخلاف بين محمد وردي وشاعره أسماعيل حسن وكان كلاهما يرى بأنه صنع الآخر .. مما حدا بالشاعر أسماعيل البحث عن مغنى جديد هو (أحمد فرح) ليؤكد بأن الشاعر هو من يصنع الفنان وليس العكس .. ولكن فشل أحمد فرح في أن يقدم نفسه كمغني من الممكن منافسة محمد وردى وضاع أحمد فرح في غياهب التاريخ ماعدا أغنية واحدة هى (يا حليلك يا بلدنا) التي كتبها اسماعيل حسن ولحنها الموسيقار الراحل حسن بابكر صاحب التجربة العريضة مع محمد ميرغنى.
(5)
وأذكر جيدا في ٱحد لقاءاتى بالراحل بدرالدين عجاج تطرقنا لأغنية (حاجة فيك) التي كتب كلماتها الشاعر هاشم صديق وتغنى بها الراحل مصطفى سيداحمد .. وذكر بدالرين عجاج حينها بأن هو من قام بتلحين أغنية (حاجة فيك) ولكنى قلت له فى ٱعتراض واضح وبكل ثقة وقوة وجرأة أن من لحن أغنية (حاجة فيك) هو مصطفى سيد أحمد وأرتكزت في ذلك على سببين ..السبب الأول هو تصريح هاشم صديق بأن مصطفى سيد أحمد ٱقتطف من حديقته الشعرية قصيدة واحدة هى (حاجة فيك) وكلمة (إقتطف) تعني وبكل وضوح أن مصطفى سيدأحمد هو من قام بٱختيار النص الشعرى للأغنية مسار الخلاف .. والسبب الثانى الذي أراه أكثر واقعية ومنطقية هو صمت بدرالدين عجاج وعدم تصريحه بأنه ملحن الأغنية إبان حياة مصطفي سيدأحمد ..ومما يضعف من راويته بأنه صاحب اللحن .. وصرح بدرالدين وقتها بأنه يملك (الطرق الموسيقية) لإثبات ملكيته للحن أغنية (حاجة فيك) وسؤالى هنا للمختصين والمتخصصين فى الموسيقى وعلومها هل يوجد فعليا في علم الموسيقى ما يمكن به ٱثبات الحقوق الموسيقية؟
(6)
الكتابة عن عبقرية الفنان محمد وردى، هى بالضرورة كتابة عادية ومكرورة وربما لا تحمل جديدا، فالرجل قدم كل ما يؤكد على عبقريته وسطوته وتجاوزه، لذلك من البديهى أن تجده حاضراً في وجدان الشعب السودانى رغم الغياب، وسيظل رمزا للتجديد والمثابرة فى تقديم طرح غنائى لا يتلف مع الزمن، ولعل كل منتجات وردى الغنائية عليها ديباجة مكتوب فيها(صالح لكل الأزمان).. وأكثر ما يثير فى محمد وردي هو قدرته على الشوف بعيداً،كفنان مستنير يفكر بذكاء خارق غير معتاد، ومن يستمع له يلحظ أن أغنياته لا تعرف التثاؤب ولا يصيبها الوسن،لذلك كل أغنية عند محمد وردى هى مشروع حياتى وفلسفى، لأن أختيار المفردة واللحن عنده يمر بفلترة دقيقة لذلك كل أغنياته باقية وخالدة ، فهوغنى لكل المواضيع الحياتية فى أغنياته المنتقاة بعناية وذكاء، فهو بغير الأغنيات العاطفية ، كانت سطوته أعلى من حيث منتوج الأغنية الوطنية من (حيث الكم والكيف) فى تزاوج وممازجة مدهشة كفلت له الريادة فى مضمار الأغنية الوطنية.
(7)
أشتهر وردى بترديد الأغانى الوطنية ..حيث تغنى لهذا الوطن بعدد كبير من الأغانى الوطينة ولعل أبرزها نشيد (اليوم نرفع إستقلالنا) وهو من أشهر الأغانى الوطنية التي وجدت حيزاً كبير من الإنتشار والقبول المطلق، فعمر هذا النشيد حتي العام هذا العام 63 عاما بالتمام والكمال ، حيث ظهر إلي الوجود عبر الإذاعة السودانية في 1/1/1961 أي قبل ظهور التلفزيون الذي بدأ بثه بالعاصمة فقط في العام 1963م حين كان الراحل اللواء محمد طلعت فريد وزيرا للإستعلامات والعمل قبل أن تسمى لاحقاً بوزارة الإعلام ، ثم تم إنشاء التلفزيون فى الجزيرة ووصلها الإرسال في العام 1972م فى عهد وزير الإعلام الراحل العميد (م) الأديب عمر الحاج موسى .. (نشيد الإستقلال) كان هو الأيقونة التى قدمها الشاعر الراحل الدكتور عبدالواحد عبدالله واصبحت الأغنية الوطنية الأشهر والتى تبث فى مطلع كل عام وأصبحت كذلك من الوجدانيات الوطنية للشعب السودانى، وشاعرها الدكتور عبدالواحد يوسف ولد منتصف عام 1939م في مدينة القضارف ومما يجدر ذكره أن الفنان الراحل حمد الريح تغنى له بأغنية (بطاقة شوق) والتى أشتهرت بمقطعها الأول (أحبابنا أهل الهوي):
أحبابنا … أهل الهوى
رحلوا وما تركوا خبر
بالله يا طير المشارق
هل عرفت لهم أثر
بيض الوجوه كأنهم
رضعوا على صدر القمر
سود العيون كأنها
شربت ينابيع السحر
وكأنّ ليلات المحاق
كستهم خصل الشعر
وكانت تلك الأغنية ظهرت للوجود إبان فترة عمل الراحل حمد الريح بمكتبة جامعة الخرطوم وألتقيا هناك ، وهكذا فان شاعرنا د.عبد الواحد عبد الله يوسف يبقى علامة شعرية فارقة ،بخلود قصيدته تلك.. وسيظل التاريخ يذكره دوما في حالة من الحضور الذي لا يعرف الغياب.

مقالات ذات صلة