أغمض الأستاذ محجوب محمد صالح عينيه وغفا وغفوته الأخيرة، بعد عقودٍ من العمل الدؤوب في مهنة الصحافة أنفقها في التنوير والتبشير بالحياة الكريمة والدفاع عن شروطها، تاركاً فراغاً يصعب أن يجد مَن يملؤه فى المدى المنظور.
لقد أدرك الفقيد الكبير واجبه الوطني والتنويري في مقتبل العمر، وعاش وفياً لهذا الواجب منذ أن كان طالباً في كلية الخرطوم الجامعية التي فُصِل منها بسبب نشاطه السياسي المناهض للاستعمار البريطاني من موقعه ضمن قيادة اتحاد الطلاب، وذلك قبل أن يؤسس عام ١٩٥٣ – مع رفيقيه بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان – جريدة “الأيام” التي اتخذها منصةً للوفاء بواجبه وظل من خلالها في الصميم والعمق من أي حراك سياسي أو اجتماعي ينشد الخلاص من واقعٍ غاشم، حيث أسهمت الجريدة بفعالية كبيرة في معركة الاستقلال وتوحيد الإرادة الوطنية حتى تم إعلانه بالإجماع من داخل البرلمان.
وفي عهود الحكم الوطني، المدني والعسكري، واصل الأستاذ محجوب التأتِّي الهمام – عبر “الأيام” – لمعركة التنوير والمنافحة عن حقوق الانسان والحريات الأساسية، مُشْهِراً قلمه للدفع باتجاه ترسيخ الوعي الديموقراطي والاعتراف بالتنوع وحسن إدارته وتعزيز الشعور الوطني وإشاعة ثقافة التعايش السلمي والاهتمام بقضايا الناس المعيشية، ولم يسمح لـ “الأيام”، تحت إدارته، أن تتزحزح عن المسؤولية المهنية والوطنية رغم الملاحقة والسجن والتشريد والمصادرة والإيقاف الإداري التعسفي عن الصدور.
كانت مساحته الشهيرة “أصوات وأصداء” مدرسة عالية المستوى في فن المقالة الصحفية، إذ لم تكن لاهثةً وراء الأحداث والإثارة أو واقفةً عند العوارض والهوامش، بل كانت موسومةً بالموضوعية والرصانة ومعنية ًبالأسباب والجذور – دون وَجَلٍ ولا حَوَل – حفراً في باطن الفرص والتحديات وبحثاً عن أُفُقٍ مُضاء.
كان الأستاذ محجوب يراهن على وردةٍ تشقُّ الصخر عبر مهنةٍ تختبر الضمير ومنسوب المناعة الأخلاقية، فنجح بامتيازٍ تتقاصر دونه الجوائز كلُّها .. ظفر بإجماعٍ قَلمّا ظفر به آخرون، وترك سيرةً ناصعةً يزداد بها سطوعاً رغم غيابه الجسدي.
عليه من المولى الكريم سحائب الرحمة والرضوان .. والعزاء لأسرته وتلاميذه وعموم الشعب السوداني.