– لا توجد دولة اسمها دولة “56”، فهذا مجرد إسقاط سياسي على الوقائع التاريخية ..
– لقد أسقطت حرب 15 أبريل نظرية المركز والهامش وسقط بعض منظريها..
– طبيعة الصراع في السودان ترتبط بجدلية التخلف، التنمية، والسلطة وليست بمركز مقابل هامش..
توطئة:
يناقش هذا المقال أهم القضايا التي أنتجتها اخفاقات السياسة في السودان، كما يتصدى وضمن رؤية موضوعية لمنظور أصبح سائدا حول تفكيك دولة “56” والتي لا نعرف ماهيتها من حيث الدلالات المفاهيمية والتاريخية..كما يناقش هذا المقال ويجادل منطلقات نظرية المركز والهامش ويكشف التصورات التي أنتجتها وإلى أين إنتهى حاملوها بعد حرب 15 أبريل..المقال يتجاسر بالقول أن ما حكم تطور الدولة السودانية لا يستند إلى منظور مركز مقابل هامش مغلق وعلى أساس إثني، إنما ترتبط القضية بجدلية التنمية والتخلف ودور السلطة في دولة ما بعد الاستعمار ونهجها في تعميق الأزمات التي أسس لها الاستعمار ابتداءً
المقاربة الخاطئة:
لقد ساد عبر السنوات الأخيرة شعار تفكيك دولة “56” والذي أدي إلى إنتاج ذلك الشعار يأتي مرتبطا بالاخفاقات العديدة التي نتجت عن دور السلطات التي حكمت السودان بعد العام 1956م..والذي رتب لذلك يأتي مترابطا والوعي الذي حكم تلك القوى التي حكمت السودان بعد خروج البريطانيين منه وأدى إلى فقرها في إدراك متطلبات الواقع الذي تحكمه، وكإسقاط طبيعي لذلك الخلل في دور السلطة في تعيين موقعها في حلحلة قضايا المجتمع، برزت الأصوات المناوئة للسلطةوبشكل تاريخي، والتي يمكن تحديدها في الواقع الوطني السوداني ضمن
إطارين :
الإطار الأول: هذا الإطار قد ارتبط بالحركة الجماهيرية وما تحتويه من أطراف عديدة سواء كانت حزبية، نقابية، طلابية، وغيرها من القطاعات المدنية والتي تشمل كافة قطاعات المجتمع دون تحيزات قبلية أو جهوية، وهذا الإطار أو الاتجاه هو الذي أقلق السلطات سواء كانت ديمقراطية أو دكتاتورية لأن هذا الاتجاه قد استخدم قوته المعنوية المرتبطة باللاعنف وعلى قاعدة قوة الجماهير والتي تتجدد وفق سردية التناسل الإيجابي..
الإطار الثاني: هذا الإطار أو الاتجاه هو الذي ذهب نحو مواجهة السلطة عبر أدواتها المرتبطة بالعنف والسلاح تبني خطاب يقول أن هنالك مركزية في الدولة تتأسس على مفهوم عرقي أو ثقافي يسيطر على كل شيء مما يفرز معه هامشا عرقيا لا يمتلك أي شيء وبالتالي يصبح لزاما على ذلك الهامش مواجهة ذلك المركز، وبالتالي تفكيك دولته من أجل إبداع سودان جديد على أنقاض السودان القديم… هذا الاتجاه هو الذي أنتج نظرية المركز والهامش وهو الخطاب الذي سنقوم بنقده وتفكيك مرتكزاته..
نظرية المركز والهامش:
المدرسة الغربية لديها تأثير واسع على النخب في دول العالم الثالث، حيث تستمد هذه النخب الكثير من المفاهيم والمرتبطة بالمنظور الغربي، والذي مثلته أوربا عبر تصورها لذاتها وللعالم..ولقد تصورت أوربا نفسها تاريخيا بكونها هي مركز العالم وكل من يقع خارجها ما هو إلا مجرد هامش وصدى لأوربا، وبالتالي يقع على عاتق أوربا تمدين هذا الهامش وتطويره حتى يتسق مع الدلالات الأوربية للحضارة، ومن هنا برزت فكرة احتلال هذه الهوامش وفق شعار التمدين والذي يستبطن فكرة نهب موارد هذه الهوامش باعتبار أن هؤلاء الذين يعيشون في هذه الهوامش يفتقدون القدرة على تطوير الموارد التي لديهم، وكما يقول إدوارد سعيد فإن منطق الأوربيين ينطلق من منظور يقول بأن الذين يعيشون في الهوامش لا يستطيعون تمثيل أنفسهم فيجب أن نمثلهم نحن، أي الأوربيين، ولهذا فقد كان شعار تمدين شعوبها الهوامش حسب المنظور الغربي هي كذبة أوربا الكبرى ..من هذه الزاوية التقط العقل المصاغ وفق الرؤية الكولونيالية منظور المركز والهامش بديلا عن فكرة جدل التنمية والتخلف والسلطة في دول العالم الثالث، وقد قام وعكسا للمفهوم الأوربي الزاحف نحو الهوامش بطرح فكرة الهامش الثائر والمنتفض والزاحف ضد مركز ثقافي متخيل داخل البلد الواحد حتى لا يتم الإبصار تجاه المركز الحقيقي الذي أدى إلى بروز هذه (المراكز) الصغرى التابعة للنهج الغربي والتي أدت إلى الخلل في واقع السودان وغيره من الدول المشابهة، مما يقود وبالنتيجة لتقليص نضال الشعوب ضد الظاهرة الاستعمارية التي أنتجت فكرة عدم التوازن التنموي والذي أدى إلى تكريس مفهوم هذا الانقسام داخل الأقطار والذي تم تصويره لدى البعض بأنه سطوة مركز يحمل سمات عرقية وثقافية ضد عرقيات مغايرة ومتباينة ثقافيا….هذا التحليل لا يعفي السلطات المحلية ولا يعترض على مواجهتها، إنما الحديث هنا يشير إلى طبيعة المواجهة الأساسية والتي تحتم وحدة كل الهوامش التي تصورتها أوربا من أجل مواجهة الظاهرة الاستعمارية ومعها الأنظمة التابعة لها بعيدا عن الطرق حول الإثنية أو القبيلة والتي يرتكز عليها الهامش المطروح عبر تفكير منظري هذه المدرسة، أي مدرسة المركز والهامش..واستنادا لذلك وضمن المفاهيم المشحونة بأفكار الظاهرة الاستعمارية برزت نظرية المركز والهامش ضمن أفقها المحدود والذي يقرأ الظواهر وبشكل منفصل، سواء كان ضمن منظور تاريخي أو راهني، كيف؟ نقول وضمن أساس تاريخي فإن أساس الدولة الوطنية في دول العالم الثالث هو أساس استعماري، بأي معنى هذا التوصيف؟ والإجابة، بمعنى أن الدولة الوطنية الحديثة لم يخطط أبناؤها لإنشاء بنياتها إنما ورثوا ما خطط له الاستعمار على مستوى السياسة والاقتصاد، حيث ورث أبناء هذه البلدان النمط الليبرالي الغربي في السياسة والاقتصاد، أما التنمية على الأرض فقد سارت على النمط الذي خطط له الاستعمار ولم تبعد عنه كثيرا..فإذا أخذنا السودان كمثال فإن الأنظمة الوطنية التي خلفت الاستعمار البريطاني سارت على ذات النهج الذي رسمته بريطانيا للتنمية والتي تركزت في مناطق بعينها لديها القابلية على تسهيل نقل الإنتاجية إلى بريطانيا دون اعتبار التوزيع العادل للثروة، ومن هنا تركزت مظاهر هذه التنمية في وسط السودان وتم حرمان بقية المناطق من هذه التنمية، ولهذا فالأساس في هذا الخلل أنتجته العقلية الاستعمارية وسارت عليه غالبية النخب التي تسلمت السلطة وبالذات العسكرية والتي استبدلت( البرنيطة) الإنجليزية (بالكاب) العسكري مع بقاء العقلية ذاتها والتي أبقت على ذات النهج وبالذات في مجال التنمية..وبالتالي فإن ما يقول به أصحاب نظرية المركز والهامش بأن هنالك دولة اسمها دولة “56” وهي المرحلة التي تلت حقبة الاستعمار، فإن هذا المنظور أو القول يفصل الحقب التاريخية حتي لا يواجه الظاهرة التي أنتجت الخلل الأساسي في المعادلة الوطنية وهي الظاهرة الاستعمارية والتي لا يتحدث عنها أصحاب نظرية المركز والهامش كثيرا لأنهم قد أصبحوا جزءا من هذه الظاهرة والتي عنوانها تجزئة وتفتيت الأوطان وفق مبررات احتكار السلطة والثروة لمجموعة بعينها، وهذا ما أدى كنتيجة لفصل الجنوب وفق ذلك المنظور والذي التقى مع منظور الإخوان المسلمين والقائم على التفتيت وعلى أسس دينية.. لقد نفى انفصال الجنوب تصورات نظرية المركز والهامش، حيث انعدم المركز الثقافي الذي تم تصويره من قبل في السودان والمحتكر لكل شيء مقابل الهامش الفاقد لكل شيء، حيث ظل الجنوبيون بعد الانفصال يرزحون داخل دائرة الفقر والحروب دون أن تكون هنالك “إسلاموعروبية” تسيطر على المركز في الجنوب كما تم تصوير ذلك عبر تلك المدرسة وفي حالة شمال السودان، حيث أن الخلل في التجربة الجنوبية يرتبط بدور السلطة وعدم قدرتها على الخروج من إطار المصالح الذاتية والمدعومة بوعي القبيلة..إذن ومنذ البداية أخطأ منظرو نظرية المركز والهامش عبر افتراضين:
الافتراض الأول : وهو الافتراض الذي قيل فيه أن هنالك دولة اسمها دولة “56” دون أن يذهب هؤلاء وراء أساس تلك الدولة وطبيعة نشأتها ذات الركائز الاستعمارية والتي لم تبدأ في عام 1956م، ولكن هذا العام قد مثٌل مرحلة جديدة في تاريخ السودان مرتبطة بالاستقلال السياسي مع بقاء تلك الركائز الاستعمارية كما هي في الجوانب الاقتصادية والتنموية، ولهذا فقد فصلت نظرية المركز والهامش المراحل وأصبحت معلقة بمرحلة منقطعة عن سابقاتها مما تضيع مع ذلك مسألة التطور التاريخي في فهم الصراع وربط حلقاته مع بعض…كما أن أصحاب النظرية لم يعُرفوا الدولة نفسها والتي يقوم أساسها على ثلاثة عوامل هي: الشعب، الأرض، والسلطة، ولا ندري أي من العوامل يسعى أصحاب مدرسة المركز والهامش إلى تدميره ولإقامة البديل الجديد؟؟
الافتراض الثاني: هذا الافتراض ارتبط بالمحددات القطعية والمرتبطة بفكرة الهامش المغلق علي أساس عرقي-ثقافي مقابل المركز المهيمن على هذا الأساس العرقي-الثقافي دون الذهاب بعيدا تجاه فكرة أن هذه الهوامش لديها امتدادتها تجاه المركز المذكور من حيث المدلول الثقافي، وحالة الجنوب بعد الانفصال تشير إلى ذلك حيث ما زالت الغالبية من أبناء وبنات الجنوب يحملون معهم مظاهر الثقافة السودانية العامة وبدرجات مختلفة، وكذا بقية أطراف السودان سواء في دارفور وبقية أطراف السودان، والتي يعتبر صراعها ليس ثقافيا مع وسط السودان والذي ينظر إليه باعتباره ذلك المركز المهيمن، إنما ترتبط جذور الصراع بطبيعة السلطة المحتكرة لكل شيء والتي قد ثارت عليها جماهير الوسط لتدافع ومنذ الاستقلال عن حق الجنوبيين في الحياة الكريمة وتقف ضد السلطات التي رفعت السلاح في وجه الجنوبيين، كما دافعت جماهير الوسط عن دارفور عبر شعار( يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور) ، وعلى هذا الأساس تنعدم فكرة الهامش الإثني الثائر ضد المركز الثقافي المهيمن وهناالمركز العروبي، حيث أن القضية ومع الاعتراف بالتنوع الدرجي وليس النوعي وفي أساسها ترتبط بالجدلية التي ذكرناها سابقا والمرتبطة بطبيعة السلطة في دول العالم الثالث وعلاقة ذلك بالتنمية وظاهرة التخلف، حيث تحتكر السلطة كل شيء ومن ثم تركيز الثروة حولها وبالتالي حرمان الشعب من كل شيء، وهي الجزئية التي تحدثنا عنها في صدر المقال والتي تقود إلى فكرة الثورات ضد هذه السلطة وهي الفكرة الجماعية الإيجابية والتي خرج عنها أصحاب مدرسة الهامش بحمل السلاح بديلا عن النضال السلمي والذي أدى لانفصال الجنوب وأدى إلى انتكاسات عديدة داخل هذه المدرسة نجملها في النقاط التالية:
أولا: الانتكاسة الفكرية، حيث أن المنطلق الذي قامت عليه نظرية المركز الهامش قام علي أساس سياسي مرتبطا بردود الأفعال دون القدرة على النفاذ نحو معوقات النهضة في دول العالم الثالث، والتي قلنا بارتباطها بالظاهرة الاستعمارية، وحتى في الجانب السياسي ارتبط الأمر بالشعار ومنه شعار تفكيك دولة “56” دون الاجتهاد في تحديد مفهوم الدولة..
ثانيا: غالبية الذين تبنوا نظرية المركز الهامش ومن خلال التنظير، وخارج إطار الحركة الشعبية أو داخلها هم من أبناء (المركز) وهؤلاء قد شعروا بعقدة الذنب نتيجة لممارسات السلطات العسكرية تحديدا في ممارسة القتل والعنف ضد الأطراف ضمن حركة الصراع المسلح، وهذا الانتماء لأبناء (المركز) للهامش ليس سيئا ولكنه انطلق من منظور جزئي يفقد التعاطف مع الهوامش الأخرى وفي الشمال الوسط باعتبارها هي صاحبة امتيازات مما تضيع معه النظرة الشاملة لقضايا الصراع والمرتبطة بدور السلطة وتهميشها للكل.
حرب 15 أبريل وتبدلات نخب نظرية المركز والهامش:
يمكن القول ودون تردد بأن انفصال الجنوب قد أنهى نظرية المركز والهامش والتي شملت المنظور الأساسي للحركة الشعبية، وكما أوضحنا سابقا فلم تكن في الجنوب مركزية مرتبطة بعروبة أو إسلام كما تقول بذلك تلك النظرية في شمال السودان، إنما كانت القضية في مجملها مرتبطة بقضية التنمية والتخلف واحتكار السلطات لمصائر الشعب..وبعد انفصال الجنوب اندلعت حرب 15 أبريل لتضع هذه النظرية في رف التاريخ، استنادا للمحاور التالية:
المحور الأول : بعض المثقفين والذين تعبوا في التأسيس لهذه النظرية و وقفوا ضد ما أطلقوا عليه المركز ومؤسساته وجدوا أنفسهم بعد هذه الحرب يقفون مع المؤسسات التي تمثلها الدولة التي قالوا بضرورة حربها أي (دولة 56) ويدافعون عنها وعلى رأس تلك المؤسسات يأتي الجيش والذي بدأوا يتحدثون عنه وكأنه يحارب قوى خارجية ويؤكدون على ضرورة وجوده ومن أجل الحفاظ على الدولة وذلك ينسف الفكرة الأساسية المرتبطة بالإزاحة والإحلال التي صدرتها نظرية المركز والهامش، أي إزاحة السودان القديم وإحلاله بسودان جديد..كما أن بعض الذين حملوا السلاح من أجل الدفاع عن الهامش تحت مسوغات تلك النظرية وجدوا أنفسهم وهم يدافعون عن جيش (دولة56) عبر هذه الحرب الدائرة اليوم، والذي قالوا عنه من قبل أنه جيش المركز المهيمن والذي لا يخوض حربا إلا ضد الهوامش، وهو ذات الجيش الذي يقوم بحربه ضد الشعب السوداني كله ومعه الدعم السريع التي تواطأ في إنشائها، وذلك من خلال التدمير وقتل وتشريد المدنيين عبر هذه الحرب التي عنوانها الخراب..
المحور الثاني: كشفت هذه الحرب بأن الصراع في طبيعته ليس مرتبطا بالإثنيات نتيجة للمظالم الواقعة عليها وعلى أساس العرق، إنما هذه الحالة ترتبط بكافة قطاعات الشعب السوداني، والأخطر أن الذي يتبنى قضية الهامش اليوم هي قوات الدعم السريع وهي ليست من (المركز) ولكنها تحمل سماته الثقافية أي أنها تقع في دائرة العروبة والإسلام أو “الإسلاموعروبية” كما يقول بذلك أصحاب نظرية المركز والهامش، وقد كانت هذه القوات من قبل ضمن نسق السلطة المركزية، ولكن نتيجة لتوازنات السلطة نفسها حدثت المواجهة بين هذين الطرفين، الجيش والدعم السريع، وهذا يؤكد أن قضايا الصراع في السودان يرتبط بعملية السلطة والصراع حولها ومن قبل كافة الأطراف دون محددات عرقية أو ثقافية…
المحور الثالث: هذه الحرب قد قضت على (المركز) وتدميره عبر مؤسسات المركز نفسها مع الاشتراك مع أصحاب العروبة العرقية القادمين من الأطراف، وبالتالي فنحن في انتظار منظري مدرسة المركز والهامش ليقولوا لنا كيف نبني السودان الجديد الذي تم تدميره من قبل المنتميين لدائرة العروبة نفسها وليس من قبل الهامش المفترض من قبل نظرية المركز والهامش…
المحور الأخير: يمكن القول إجمالا بأن المنطلقات التي تأسست عليها نظرية المركز والهامش منطلقات خاطئة لم تقف على ظاهرة التنمية والتخلف وعلاقتها بالسلطة في دول العالم الثالث مرتبطا كل ذلك بالظاهرة الاستعمارية التي قامت عليها بنيات التنمية في هذه البلدان وسارت على نهجها السلطات الوطنية ذات الاتجاه الليبرالي والذي يدور في فلك الظاهرة الاستعمارية..الحل ووفق منظور مستقبلي يرتبط بمفهوم الديمقراطية الاجتماعية والمرتبطة بالإنجاز على أسس متوازية ومتوازنة على مستوى كافة الأقاليم، كما يرتبط الأمر بدور السلطة ضمن منظورها لواقع المجتمعات والوعي بجدلية التنمية والتخلف ومشروع النهضة على أسس اقتصادية واجتماعية جديدة..