٩٩ عاماً على استشهاد
عبد الفضيل الماظ
٢٨ نوفمبر ١٩٢٤- ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٣
ثنائية الجيش وقضية تأسيس القوات المسلحة
ياسر عرمان
(١)
في عام ١٨٩٨ عند غزو الجنرال كتشنر للسودان وتدميره للدولة الوطنية كان بمعيته جيشين، القوات البريطانية والأورطة المصرية، عُرف التعبير السياسي عنهما بأسم “الحكم الثنائي” ولم تنتهي ثنائية الجيشين إلا بعد هزيمة ثورة ١٩٢٤، وتم دمج الأورطة المصرية في القوات البريطانية وتكونت في عام ١٩٢٥ قوة دفاع السودان التي أنهت ثنائية الجيشين، وهاهي تطل برأسها من جديد بعد حرب الحروب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ بعد ما يقارب المائة عام تطرح هذه القضية من جديد في اطار ومناخ ومستجدات ووقائع مختلفة، وقد خرج المستعمر دون ان تتبنى القوى الوطنية مشروع وطني يسع بناء الأمة وتنوعها التاريخي والمعاصر.
(٢)
في يومي الخميس والجمعة ٢٧-٢٨ نوفمبر ١٩٢٤ اندلعت معركة النهر الثانية وأستشهد قائدها الفارس على مر الزمن عبد الفضيل الماظ سليمان عيسى وهو أبن ٢٨ عاماً في وهج وريعان الشباب.
الماظ مولود لأب ينحدر من قبيلة النوير وأم من قبيلة المورو من غرب الإستوائية، كان والده جندياً في الاورطة المصرية تزوج والدته في القاهرة قبل مشاركة الأورطة في غزو السودان في حملة اللورد كتشنر أشهر وزير حربية بريطاني لاحقاً، وهو رمز من رموز الجندية البريطانية، الماظ حملته أمه وهن على وهن عائداً إلى السودان ونما وترعرع من لبن امه وتراب السودان نشأ فتى ًوطنياً مهاب الجناب، ووجه سلاحه بعد ربع قرن إلى صدور جنود الحملة التي غزت السودان، كان الماظ مشارك فز في ثورة ١٩٢٤ التي تعد بحق بداية الحركة الوطنية الجديدة بقيادة الزعيم علي عبد اللطيف، والماظ هو القائد الفعلي للجناح العسكري لثورة ١٩٢٤، وهي ثورة امتلكت جناح سياسي فاعل الذي شكل وطبع الحركة السياسية الحديثة بميسمه وأسس توجهات العمل الجماهيري الواسع، وضمت الحركة التنوع السوداني وقادة كبار ترجع جذورهم إلى شمال وجنوب السودان، كانت ثورة ١٩٢٤ أول حركة في تاريخ السودان الحديث بعد هزيمة الدولة الوطنية تضم جناح سياسي وعسكري.
(٣)
قبل مجيء الماظ للخرطوم وقيادته لمعركة النهر الثانية كان قائداً لحامية تلودي في جبال النوبة، وزار القاهرة في عام ١٩٢٣ وهي مرجل يغلي بثورة ١٩١٩، وكان مثقفاً بشهادة زملائه ووطنياً رفيعاً وأحد أشجع ضباط الاورطة المصرية وهنالك قصص عن شجاعته حينما كان يعمل في بحر الغزال والإفادات المؤثرة التي تقدم بها زملائه بعد معركة النهر الثانية ومنهم سيد فرح من دلقو المحس والشاويش فاما من ابناء النيمنق ومزمل علي دينار أبن السلطان الشهيد علي دينار.
أوقع الماظ أكبر الخسائر في القوات البريطانية التي اشتبك معها في يوم الخميس ٢٧ نوفمبر ١٩٢٤، وقد كان البريطانيون يعتقدون انه لا يملك ذخيرة حية وتقول الروايات الشفاهية ان من أعطاه الذخيرة الحية هو القائمقام فرج ابو زيد الدينكاوي الذي ترجع اصلوه إلى مدينة اويل وهو ضابط رفيع من ضباط الأورطة، ولقد كانت ما أسميتها معركة النهر الثانية تسديداً لفواتير معركة النهر الأولى في كرري ولقد فاجأ الماظ القوات البريطانية عند اداء التمام المسائي بمباني جامعة الخرطوم الحالية وامتد القتال إلى (مستشفى العيون) والذي أطلقنا عليه في فترة نيفاشا مستشفى عبد الفضيل الماظ.
(٤)
ترك استشهاد الماظ اثراً عميقاً في الحركة الوطنية ولسنوات كانت أغاني البنات في المناسبات الاجتماعية تلهج بشجاعة الماظ، التي سطرها حسن نجيلة في كتابه ملامح من المجتمع السوداني، كما سجلت لجنة البروفسور يوسف فضل حسن ومحمد إبراهيم ابو سليم ودكتورة محاسن حاج الصافي التي شكلها جعفر نميري، شهادات عميقة الأثر عن هذه المعركة التي تم تجاهلها ولم تدخل تفاصيلها كتاب التاريخ مثل ما تم تجاهل ثورة ١٩٢٤ وقادتها وشهدائها، ولابد من نفض الغبار عنها ونحن على اعتاب الذكرى المئوية لهذه الثورة ومعركة النهر الثانية فهي ثورة مجيدة وبذرة من بذور فكرة السودان الجديد وفكرة المواطنة بلا تمييز، وهي التي طرحت مطالب الأمة بتعابير سياسية واضحة، وحيث ان الماظ يظل شهيداً لا يشبه غيره.
(٥)
توصل الإنجليز لخلاصات مهمة بعد ثورة ١٩٢٤، أولها ان وجود جيشين ساهم على نحو حاسم في زيادة وعي الجنود السودانيين ووجود البريطانيين والمصرين والسودانيين بذر التناقضات داخل القوتين، ولذا تم تأسيس جديد لقوة موحدة في عام ١٩٢٥ هي قوة دفاع السودان التي تطورت لاحقاً إلى الجيش السوداني وقوات الشعب المسلحة ومن ثم القوات المسلحة الحالية والتيار الوطني في داخل القوات المسلحة يدين بالفضل من بعد الله إلى الجناح العسكري لثورة ١٩٢٤ وقادتها الأماجد وقد نمت هذه البذرة عبر الزمن وشكلت لهيب الجندية السودانية المنحازة للشعب والثورة في أكتوبر ١٩٦٤ وأبريل ١٩٨٥، يرجع هذا الانحياز بجذوره البعيدة لثورة ١٩٢٤، والآن بفعل خطل السياسات وحروب الريف البعيدة وغياب وجه الريف المنتج والعطالة وسط الشباب واختطاف أجهزة الدولة والتعدي على المواطنة بلا تمييز، رجعت تعددية الجيوش وهي أحدي الأسباب العميقة لحرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣.
(٦)
العودة إلى الماظ وإعادة تأسيس القوات المسلحة
١٩٢٤-٢٠٢٤
بعد حوالي مائة عام من غياب وحضور عبد الفضيل الماظ ومع اختلاف الظروف وفي ظل الحكم الوطني، تعود قضية تأسيس جيش واحد من جديد وكيفية بناء قوات مسلحة مهنية وقومية تعالج بها الاختلالات التاريخية، وغير مسيسة وتخضع للسلطة المدنية، ولا تعمل لتكريس القمع والشمولية والفاشية ونهب الموارد أو اختطاف السلطة السياسية، وهي قضية ذات أبعاد متصلة بالاقتصاد السياسي ومنع تكريس السلطة السياسية في يد العسكر وان لا تِطلق البنادق التي اشتراها الشعب ذخيرتها ضد مالكها.
عام ٢٠٢٤ يجب أن يشهد انهاء تعددية الجيوش واعادة تأسيس الدولة واكمال الثورة، واعادة بناء وتأسيس القوات المسلحة للمرة الثالثة كقوات مهنية قومية تعكس التنوع تحت حكم مدني ديمقراطي، وهي هديتنا لعبد الفضيل الماظ في عليائه الأبدي وثورة ١٩٢٤ بعد مائة عام على معركة النهر الثانية، ويظل الماظ كحل على رمش الوطن وشهيداً لا يشبه غيره.
الآربعاء ١٣ ديسمبر ٢٠٢٣