*في الطريق إلى جنيف: وما يوم الجنرال جلحة ببعيد (1-2) عبد الله علي إبراهيم*

 

تفكيك جيش العراق وهايتي كان على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة الأميركية، ويبدو ما يحدث في السودان ثالثة الأثافي
دعت الولايات المتحدة القوات المسلحة و”الدعم السريع” للمشاركة في محادثات لوقف إطلاق النار في جنيف بمراقبين من الاتحاد الأفريقي ومصر والإمارات. واقتصر هدف المحادثات على وقف العنف وتمكين وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين، وتطوير آلية للرصد والتحقق لضمان تنفيذ أي اتفاق تخرج به المحادثات. ومع استبعاد أميركا “معالجة القضايا السياسة الأوسع” من هذه المحادثات إلا أن هذه القضايا السياسية ستخيم على المحادثات لا مشاحة.
ستعرض في المحادثات بجنيف قوتان عسكريتان من “الأشقياء” في العبارة التاريخية الإسلامية. وهذا هو الفهم الأميركي لحرب السودان مما أوجز جون بيريلو، مندوب أميركا الخاص للسودان، في كلمته أمام لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس خلال مايو الماضي. فقال إنه بينما شنت قوتان عسكريتان هذه الحرب، فهي مما يمكن وصفها بحرب بين جنرالين وأحلافهما ضد الشعب السوداني وأمانيهم لمستقبل حر ديمقراطي بأكثر مما هي حرب أهلية. وهذا الخروج للحرب كنزوة مما تصف الأدبيات العربية أهله بـ”الأشقياء” كما في أدب دولة المهدية عندنا.
إن جعل أميركا “الدعم السريع” صنواً للجيش السوداني مما يستغرب منها وهي التي تعاني الأمرين في بلدين، هايتي والعراق، انحلت جيوشهما أمام مشهد منها. فكانت أميركا غزت هايتي خلال عام 1994 لاستعادة الرئيس جين آرتراند آريستايد للحكم بعد انقلاب الجيش عليه خلال عام 1991. وسرعان ما سرح آريستايد الجيش خلال يناير 1995 لتعنون لوس أنجليس تايمز خبره بـ”هزيمة مهينة للعسكرية الهايتية”. وقالت إن حل الجيش الذي اتخذه آريستايد ولم يطلع الأميركان عليه كان بمثابة رصاصة الرحمة عليه. فكان الجيش في السكرات بعد الغزوة الأميركية. فنزع الأميركيون كل سلاح من الجنود عدا المسدسات والبنادق القديمة، واحتلوا مبنى قيادة الجيش، وحلوا وزارة الدفاع وحولوا وظائفها لوزارة العدل.
وكان تسريح الجيش إجراء ضمن آخر ليدعك الرئيس الإهانة له كـ”الرمز الأقوى وموئل الفظاظة والفساد الذي طبع حياة هايتي لنصف قرن”. وحلت محل الجيش قوة شرطية تحمل مسدسات بلا ذخيرة. ولدعك الإهانة للجيش أكثر جعلوا مبنى قيادته المهيب في وسط العاصمة لوزارة جديدة هي وزارة شؤون المرأة. وتظاهر الجند ضد تسريحهم بعنف وقتل الجيش الأميركي منهم نفراً. وأثارت التظاهرة مخاوف أميركية من ذلك العدد العاطل من الجنود من أن يتحلوا إلى الإجرام.
ورأى الأميركيون في قرار الحل “شعبوية جذرية”. فكانوا يريدون جيشاً لهايتي أكبر وتقليدياً. فهايتي غير المستقرة في قولهم في حاجة إلى مؤسسة محافظة لتوازن نزعات السياسيين الديماغوجيين الخطائين. ولكن هناك من أهل الجزيرة من لم ير وجاهة في حل الجيش. فقال رجل أعمال “ليس بوسعي الدفاع عما كان يقوم به الجيش، ولكن إلغاءه مخيب للأمل. وصدر حله عن عاطفة لا عقلانية. والجيش مؤسسة وهي ربما آخر مؤسسة من ماضي هايتي وأكره أن أراها تدمر”.
وعلق الصحافي بأنه ومهما كان من قول الرجل فإن الجيش في صورته الحديثة كان مباءة انقلابات وقوة معادية للديمقراطية، إما حكمت الدولة مباشرة أو خدمت مصالح ديكتاتوريين مدنيين. ونبه لسخرية القدر هنا، فقد كان جيش هايتي من صنع أميركا ودربته المارينز قبل إنهاء احتلال أميركا لهايتي الذي امتد لـ19 عاماً خلال عام 1934.
وتكرر تسريح الجيش بحضور أميركا في العراق. ومن رأي قاريت قراف في “فورين آفيرز” خلال مايو 2023 أن بول برمير، الحاكم الأميركي للعراق بعد غزوها، اتخذ قرارين شاذين وهما تفكيك سيطرة البعث على الدولة وحل الجيش العراقي. وعدهما قراف من الأخطاء المفرطة في حرب العراق. فيعزى إليهما قدح شرارة المقاومة ضد الاحتلال الأميركي لأعوام طاولت أرواح آلاف الأميركيين والعراقيين المدنيين. والقراران في قوله من طائفة من قرارات وصمت غزو العراق بالمغامرة الطائشة. فاتسمت بالتخطيط المتأخر والافتراضات المرتبكة والتنفيذ الخديج. وجرى ذلك في وضع تفاقم سوؤه مع التدهور المعجل للأوضاع على الأرض.
ولم يكن تفكيك سيطرة البعث كما وقع مما اتفق للحكومة الأميركية والبنتاغون خلال تحضيراتهم للغزو. واستلهموا تجربتهم في ألمانيا النازية التي أوجزوا فيها تفكيك النازية فلم تمس إلا الرؤوس الكبيرة. وكان الرأي الذي اتفق للأميركيين هو التفكيك المحدود للبعث العراقي، بل كانوا عقدوا النية أن يوظفوا الجيش العراقي في عمليات التنمية والإعمار في العراق. وانقلب الأميركيون على خطتهم الأولى لعاملين أولها ضغوط ممن كانوا في معارضة صدام حسين الذين كانوا يريدون تفكيكاً غير رحيم لدولته. أما الأخير فكان وجود صدام لا يزال آنذاك حياً فخشوا أن يكون بؤرة تجمع للمقاومة ورمزاً. وعليه كان تجريده من مواطن نفوذه في الدولة أمراً لا يقاوم.
نذر انحلال الجيش السوداني في الأفق. فحتى من كانوا يريدون لقوات “الدعم السريع” الدمج في القوات المسلحة حسب الاتفاق الإطاري قبل الحرب جنحوا بعدها إلى الدعوة لانحلال كليهما في جيش قومي مهني. وهذه خطة مبهمة ومجازفة أكثر حملتها من معارضي الإنقاذ ذوي الموجدة على جيشها، وصادرة عن عاطفة سياسية معارضة لا عقل في فقه الدولة، كما أحسن الرجل من هايتي القول. بل هي من قماشة معارضة العراق لحكم البعث التي صفت ثاراتها معه بعد انهياره بحل جيشه. وليس مثل أميركا، التي انحلت الجيوش في هايتي والعراق في نبطشيتها ليحل على البلدين بلاء عظيم بالنتيجة، من يراجع قادة التجمعات المدنية السودانية من دون خطة حل الجيش. فأميركا لا تزال عند التزامها باستعادة مسار التحول الديمقراطي الذي قطعته هذه الحرب وكأن الحرب مجرد “فاصل ونواصل” بينما ستحف به أخطار أن نضرب في مجهول سوداني لا جيش فيه ولا دولة.
وتوافرت خلال الأسبوع الماضي نافذة لنرى هذه الأخطار فيما انكشف لنا عن تركيبة ميليشيات “الدعم السريع” في “واقعة الجنرال جلحة” التي ملأت السودان وشغلت الناس. وبرزت تراكيب ميليشية مخيفة إن سادت قواها فلربما كان الانتقال الديمقراطي هو آخر ما سيحتاج إليه السودان.
ونواصل

آريستايد

مقالات ذات صلة