*آليات التحرر من الأيديولوجيا لاسترجاع مخايل الذكاء والتفكير النقدي: مساجلات الأسافير نموذجاً*
*محمد جلال أحمد هاشم*
كمبالا – 20 ديسمبر 2023م
*لغة التراكيب بديلا عن التفكير النقدي*
يبدو لي أننا نحن أمام حالة يا طالما كتبت عنها ولفتت انتباهي، ألا وهي خطورة اللغة عندما تصبح خطابا، ثم ينحرف الخطاب ليصبح مجرد لغة تراكيب patterned language
(وهو من أخطر المصطلحات والمفاهيم التي طورها بروفيسور محمد الواثق مصطفى خلال محاضراته منتصف السبعينات). ففي الشعر، يتقن الشاعر استخدام التراكيب الجاهزة بسبب حاضرة بديهته الشعرية، لدرجة أن يعتمد على هذه الحاضرة فينصرف عن عملية الخلق والإبداع، ذلك بدلا من أن يعالج مفردات المعاني ليصنع منها تراكيب خاصة به (وكان واثقُنا، عليه رحمة الله، يضرب بالبارودي مثالا لهذا). ولتقريب الفهم، هناك لعبة للأطفال تتكون من مجسمات صغيرة تأخذ شكل المربعات والمستطيلات والمثلثات، يستخدمها الاطفال لبناء غرف وما شابه، تكون صورها معروضة أمامهم. هذه هي التراكيب، بينما لو أحضروا لهم مجسمات صغيرة في شكل طوب متفرق لما تمكنوا من اول وهلة من بناء أي شيء منها. المبدع المطبوع هو من يقوم ببناء مخططات عمرانية انطلاقا من طاقة الإبداع الكامنة فيه، لا من المجسمات الجاهزة.
هذا الفهم قمت من جانبي بتطبيقه في السلوك الفكري الاجتماعي، ذلك في حالات اشتداد الاستقطابات الأيديولوجية. والأيديولوجيا، فيما اعتمدته من تعريفاتها، هي وعي زائف، يزيف الواقع ويخلق الوهم، وبالتالي تجعل ضحاياها منبتّي الصلة مع واقعهم. وهكذا ينتهي الأمر إلى ما أسميته بالغباء الأيديولوجي الذي ينتهي بدوره إلى محق كل مخايل الذكاء الفطري لتكون خاتمة المطاف هي حالة من الغباء الاجتماعي العام انحسارا لأدنى قدرات التفكير النقدي على مستوى قطاعات معتبرة من المجتمع. هكذا تنتهي الحضارات، وهكذا سادت دول وبادت دول.
وعليه، ومع اشتداد الصراع حول السلطة في السودان لدرجة اندلاع الحرب، وما نجم عنه من استقطابات حادة على مستوى المدنيين، جاءت خشيتي من أن ينتهي بنا الأمر جميعا إلى أن ننزلق نحو الاستقطابات الأيديولوجية ليحدث لنا ما شرحته أعلاه. عندها سوف نتكلم ونتجادل ونتجالد بسياط الكلام، لا تحفيزا لموفزات الفكر والشعور تلاقحا، بل أشبه بحوار الطرشان. ذلك عندما تصبح اللغة عندنا مجرد تراكيب، نظنّها تحمل المعاني، بينما هي لا تحمل شيئا بخلاف المواقف المتصلبة.
وقد اقلقني هذا وأمضّ خاطري وأزعجني، كما أزعج الكثيرين. فمن متابعاتي للمداخلات التي تضج بها الأسافير، لاحظت أن أغلب هذه المداخلات تنحرف عن الموضوع لتنتهي إلى مواقف أشد تصلبا. فالمقال مناط النقاش في جهة، والمداخلات، كل واحدة على حدة، في جهات متباينة لا رابط بينها. ولزيادة الطين بلة، هناك مداخلات الإساءة والشتائم والبذاءة، ثم المطاعنات والمشاحنات. ثم هناك “المشخصنون” Subjectivizors، هؤلاء الذين لا يمكن أن يتعاملوا مع أي مسألة موضوعية Objective Problem إلا إذا شخصنوها. فمثلا، إذا قلتُ: “إن تاريخ الإمبريالية المعاصرة أثبت دائما أن قوى الإمبريالية العالمية تنجح في إلحاق الهزيمة بالجيوش النظامية لفرض هيمنتها على موارد الشعوب المستهدفة، بينما تحيق بها الهزائم النكراء بمجرد أن يحمل الشعب السلاح ليواجهها”، تتالت ردود هؤلاء المشخصنين على النحو التالي: “إنت امشي شيل السلاح أولا وبعد داك تعال اتكلم”؛ وكذلك “اول حاجة إنت ما زول بتشيل سلاح” .. إلخ؛ ثم دع عنك المتهكمين Cynicals، وهؤلاء أقرب إلى المرضى اجتماعياً منهم إلى الأسوياء … وهكذا دواليك.
*المنطق اللاصوري والتفكير النقدي*
التفكير النقدي يقوم على اعتلاق علم المنطق مع اللغة ليخلق أفضل مستوى إيجابي وبناء من التواصل Communication. وفي علم المنطق، جاء المنطق اللاصوري Informal Logic بديلا عن المنطق الصوري الأرسطي Formal Logic، وهو بهذا يعتبر من أخطر وأهم مساقات Disciplines عصر ما بعد الحداثة، لا غرو أنه برز خلال الخمسين عاما الماضية (ونحن في السودان محظوظون لأن أول كتاب متخصص في التفكير النقدي والمنطق اللاصوري باللغة العربية على مستوى جميع الدول الناطقة بالعربية [الدول العربفونية في كل الشرق الأوسط] هو ذلك الذي ألفه قبل حوالي ست سنوات الدكتور عمرو صالح يس الذي، بدوره، يصارع في بحر الأسافير أعنف العواصف في أنواء الغباء الأيديولوجي ومجاهل انحسار قدرات التفكير النقدي، فله الله الذي لا يخيب عنده رجاء). ولا غرو أيضا أن أحد أنجع مناهج فكر ما بعد الحداثة هو منهج التحليل الثقافي حيث تلعب فيه اللغة والمنطق اللاصوري الدور المحوري في التواصل.
يُعنى التفكير النقدي بكيفية بناء المُحاجة Argument عبر استخدام اللغة (التواصل Communication بفهم هابرماز) بطريقة تؤدي إلى خلق الفهم المنفتح الجيد للفكرة ثم التفاهم الجدلي المتلاقح. وبهذا يتبلور من اعتلاق اللغة مع المنطق اللاصوري خطاب Discourse (بفهم ميشيل فوكو) يلخّص الفهم الفكري في صياغات لغوية، لكن دون أن تفقد وشائجها المنهجية بالتأسيسات المنطقية والنظرية لذلك الفهم التفكيري، وإلا تحولت إلى أيديولوجيا فأورثتنا الغباء ومحقت بالتالي الذكاء.
*من الغوغائية إلى التفكير النقدي*
في شكّه المنهجي، قال ديكارت: “أنا أفكر، فأنا إذن موجود”! في عصر ما بعد الحداثة والتفكير النقدي، تصبح هذه المقولة: “أنا أتساءل، فأنا إذن موجود”! لا غرو أن كتاب عمرو صالح يس الرائد، غير المسبوق، في التفكير النقدي، قائم كله على شكل حوار بين إثنين، الأول يوجه الأسئلة النقدية، والثاني يقدم إجاباتها النقدية. وفي القاعدة الفقهية: السائلُ لا يُجرّم!
وبما أنني أحد طلبة عمرو صالح يس في التفكير النقدي والمنطق اللاصوري (مع فارق السن، فعمرو في مقام أبنائي، فأكرم وأنعم)، درجت في ردودي على أغلب المداخلات التي تتقافز كأسماك البحر وتنهال عليّ في مقالاتي التي أنشرها في السوشيال ميديا، على اتباع منهج التفكير النقدي، ذلك بتوجيه الأسئلة للمتحاورين معي بكل احترام وبكل محبة، ذلك بغية استجلاء وجهات نظرهم بالإضافة إلى محاولة تبيان أوجه الخلل فيما يتداخلون به. أما السفهاء (وما أكثرهم في السوشيال ميديا على قول إيكو Eco وصديقنا صلاح الزين في مقاله الباذخ عن رقمنة المعرفة)، فإني أقوم على الفور بحظرهم وتبليكهم (من Block) ثم شطب مسافهاتهم وما يسلحون به ويدلقونه من أمعاء أنفسهم غير السوية، ذلك عملا بمجزوء الآية “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.
وعملية رفع الأسئلة نقديا تختلف تماما عن المغالطات Polemics والمغالطين Polemicals، وهؤلاء أمرهم عجيب! هناك قاعدة في علم المنطق تقول بأنه داخل أي إفادة Statement، توجد إفادة مضادة Counterargument، بمعنى انك إذا قلت بأن فريق الهلال هو الأفضل، فهذه الإفادة تحتوي داخلها على إفادة مضادة هي أن فريق المريخ هو الأفضل .. وهكذا دواليك. ومن أطرف ما مررت عليه في حياتي من مغالطات عالية المستوى هي أركان النقاش التي كانت تنعقد حلباتُها بميدان الأمم المتحدة بوسط الخرطوم بين الهلالاب والمريخاب، ما بين منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات من القرن العشرين. وكنت أداوم على حضورها، بين الغدوّ والرواح، مستمتعا بالقدرات المهدرة، مستمعا غير مشارك. فجانبا عن عزوفي عن المغالطات، فقد كنت “موردابي”، ولا تزال عندي ذُبالةٌ تترقرق من ذلك الولاء للقراقير (والمابي الغُلب .. يبقى عاشق هلب). فلو أفصحت عن نفسي وقتها، لمزقتني جماهير الصهاينة والرشاشات المكتظة في تلك الأركان الغُلاطية، فهم لا تلتقي كلمتهم إلا ضد القراقير، فأنعم بهم جميعاً وبارك.
وبعد، المتغالطون لا نصيب لهم من التفكير النقدي إلا بمقدار الانتباه إلى الإفادات المضادة التي أصلا لم يكونوا منتبهين لها ومدركين بها قبل استماعهم إلى الإفادة الأساسية.
***
وهكذا لاحظت أمرين بخصوص ردود الأفعال تجاه أسئلتي، أولهما إيجابي وجميل ويُنبي عن طيب المحتد، والآخر سلبي للغاية، إن لم يكن سيئا ويُنبي عن طويّةٍ أسوأ. الأمر الأول يتلخص في أن ردود فعل المتداخلين إما أن تكون الانسحاب الهادئ والتزام الصمت، أو التزام الصمت مع علامة رفع الأصبع Thumb Up أو علامة المحبة برسمة قلب، تثمينا للأسئلة التي تكون قد فتحت آذانهم لوجه الخلل في كلامهم. أما الأمر الثاني، فالمتداخلون هنا كما لو أخذتهم العزةُ بالإثم، فتجدهم لا يجيبون على أسئلتي مهما كررتها لهم (عاملين أضان الحامل طرشا)، ثم سريعا ما ينتقلون إلى الانفعال وافتعال الغضب، والاحتجاج على ما يتصورونه استهدافا ومحاصرةً لهم، حتى إن بعضهم ليرغي ويُزبد؛ ثم إن أرذلهم من يوغلون في الشتيمة، وما دروا أنهم إنما يشتمون أنفسهم ثم يصلبونها على جدار التاريخ، لا كصناع له، بل كشلة غوغاء إذا اجتمعوا لم يُغلبوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا (على قول الإمام الشعبي).
***
وبعد؛
هذه مقالة أطرحها في الأسافير لجميع رواد الاسافير، ذلك من باب الإسهام وجهد المقل، إهابةً للجميع بأن نتوالى بالصبر على بعضنا بعضا، ثم نتوالى على قبول بعضنا بعضا من حيث شرعنة الاختلاف في وجهات النظر، ثم نقبل على بعضنا بعضا، فنتناقش ونتحاور بلا سخائم، لا أن يسخر بعضُنا من بعض، ولا نُبخس بعضنا بضاعتهم، ولا نقع في فاحش القول بذيئه، لا متغالطين ولا متطاعنين.
*محمد جلال أحمد هاشم*
كمبالا – 20 ديسمبر 2023م
*منقول من الفيسبوك من صفحة د. محمد جلال هاشم